للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَيُقَلِّدُهُمْ بِمَا يَحْفَظُ مِنْهُ، لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ مُوجِدُ الْكَائِنَاتِ، النَّافِذُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَهَلْ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مُؤْمِنًا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ كَلَّا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُوقِنًا بِأَنَّ لَهُ هُنَالِكَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، لَمَا فَضَّلَ عَلَيْهَا عَرَضَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا.

وَمِنْ آيَاتِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْلِصِ وَالْمُرَائِي أَنَّ الْمُرَائِيَ يَلْتَمِسُ الْفُرَصَ وَالْمُنَاسَبَاتِ لِلْفَخْرِ وَالتَّبَجُّحِ بِمَا أَعْطَى، وَمَا فَعَلَ، وَالْمُخْلِصُ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ عَمَلَهُ أَوْ يَذْكُرُهُ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ كَأَنَّ يَرْغَبَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْبَذْلِ، فَيَقُولُ لِلْغَنِيِّ مَثَلًا: إِنَّنِي عَلَى فَقْرِي أَوْ عَلَى قَدْرِ حَالِي قَدْ أَعْطَيْتُ فِي مَصْلَحَةِ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، فَاللَّائِقُ بِكَ أَنْ تَبْذُلَ كَذَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا يَبْذُلَ

مَالًا، وَلَا يَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا بِقَصْدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَرَاءَ حُظُوظِ هَذِهِ الدُّنْيَا أَمَلٌ، وَلَا مَطْلَبٌ، وَالْمُؤْمِنُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ وَقَعَ الرِّيَاءُ مِنْ مُؤْمِنٍ فَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ ضَعِيفِ الْإِيمَانِ قَلِيلًا، وَلَا يَكُونُ كُلُّ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلْمَامًا يَنْدَمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَيُسْرِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا مُجَاهِرًا، أَوْ مُنَافِقًا مُخَادِعًا، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢) .

قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا أَيْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأُولَئِكَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (٢: ٢٦٨) ، فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قُرَنَاءُ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ بِئْسَ الْقَرِينُ فَعَلِمَ أَنَّ حَالَهُمْ فِي الشَّرِّ كَحَالِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْمَقْصِدِ بَلِ اكْتَفَى بِذَمِّ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا لَهُ، وَهَذَا مِنَ الْإِيجَازِ الَّذِي لَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ إِلَى تَأْثِيرِ قُرَنَاءِ الْمَرْءِ فِي سِيرَتِهِ وَمَا يَنْبَغِي مِنَ اخْتِيَارِ الْقَرِينِ الصَّالِحِ عَلَى قَرِينِ السُّوءِ، وَتَعْرِيضٌ بِتَنْفِيرِ أُولَئِكَ الْأَنْصَارِ مِنْ مُقَارَنَةِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَيَانُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ يَعِدِونَ الْفَقْرَ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْعُرْفِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَالْقَرِينُ الصَّالِحُ مَنْ يَكُونُ عَوْنًا لَكَ عَلَى الْخَيْرِ، مُرَغِّبًا لَكَ فِيهِ، مُنَفِّرًا لَكَ بِنُصْحِهِ وَسِيرَتِهِ عَنِ الشَّرِّ، مُبْعِدًا لَكَ عَنْهُ، مُذَكِّرًا لَكَ بِتَقْصِيرِكَ، مُبَصِّرًا إِيَّاكَ بِعُيُوبِ نَفْسِكَ، وَكَمْ أَصْلَحَ الْقَرِينُ الصَّالِحُ فَاسِدًا، وَكَمْ أَفْسَدَ قَرِينُ السُّوءِ صَالِحًا.

وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَإِيضَاحٍ: أَيْ مَا الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَرِ لَوْ آمَنُوا وَأَنْفَقُوا؟ وَهَذَا الْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ يُؤْمِنُونَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>