الْمُتَعَيَّنُ فِي السِّيَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إِلَخْ، وَصْفٌ لِمَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَبْخَلُونَ بِهِ فَيَخُصَّهُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَوِي الْقُرْبَى وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ، لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِهِ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ فَقَطْ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَلْ مِنْهُ الْإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ وَالْمُعَامَلَةِ، فَالْمُرَادُ بِالْبُخْلِ: الْبُخْلُ بِذَلِكَ الْإِحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ فَيَشْمَلُ الْبُخْلُ بِلِينِ الْكَلَامِ وَإِلْقَاءِ السَّلَامِ وَالنُّصْحِ فِي التَّعْلِيمِ، وَبِالنَّفْسِ لِإِنْقَاذِ الْمُشْرِفِ عَلَى التَّهْلُكَةِ، وَكَذَلِكَ كِتْمَانُ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ يَشْمَلُ كِتْمَانَ الْمَالِ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، وَجِيءَ بِهِ بَعْدَ الْأَوَّلِ لِتَوْبِيخِ أَهْلِهِ، وَبَيَانِ أَنَّهُمْ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ الْبُخْلُ بِإِمْسَاكِ الْمَالِ، وَيُجْعَلَ الْكِتْمَانُ عَامًّا شَامِلًا لِمَا عَدَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْمُقَصِّرُونَ فِيهِ إِنَّمَا يُقَصِّرُونَ بِعِلَّةِ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مَظْهَرُ التَّرَفُّعِ وَالْكِبْرِ، فَهُوَ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ مَنْ كَانَ مُلَوَّثَ النَّفْسِ بِتِلْكَ الرَّذِيلَةِ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يَسْتَلْزِمُ جُحُودَ الْحَقِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ظَهَرَتْ آثَارُهُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَجُحُودُ الْحَقِّ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَهُ، وَمَنْعُهُ هُوَ الْبُخْلُ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُلَوَّثِينَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ الَّذِي يُبْغِضُ اللهُ صَاحِبَهُ وَلَا يُحِبُّهُ ـ وَهُوَ الْكِبْرُ الْبَيِّنُ أَثَرُهُ ـ يَبْخَلُونَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، إِمَّا بِلِسَانِ الْمَقَالِ، وَإِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً سَيِّئَةً فِي ذَلِكَ وَيَكْتُمُونَ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِإِنْكَارِهَا وَعَدَمِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَلِذَلِكَ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، أَيْ: وَهَيَّأْنَا لَهُمْ بِكِبْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَبُخْلِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، عَذَابًا ذَا إِهَانَةٍ يُجْمَعُ لَهُمْ فِيهِ بَيْنَ الْأَلَمِ وَالْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ جَزَاءَ كِبْرِهِمْ، وَقَالَ: لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ: (لَهُمْ) لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ وَالْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْكَفُورِ، لَا مِنَ الْمُؤْمِنِ الشَّكُورِ.
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ قَالَ الْأُسْتَاذُ: الرِّئَاءُ يُخَفَّفُ فَيُقَالُ: الرِّيَاءُ مَصْدَرُ رَاءَى كَالْمُرَاءَاةِ وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَأُعِيدَ الْمَوْصُولُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً (٣: ١٣٥) ، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، أَيْ أَنَّ مَانِعِي الْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يَبْخَلُونَ وَيَكْتُمُونَ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَصِنْفٌ يَبْذُلُونَ الْمَالَ لَا شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَاعْتِرَافًا لِعِبَادِهِ بِحُقُوقِهِمْ، بَلْ يُنْفِقُونَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، أَيْ: مُرَائِينَ لَهُمْ يَقْصِدُونَ أَنْ يَرَوْهُمْ فَيُعَظِّمُوا قَدْرَهُمْ وَيَحْمَدُوا فِعْلَهُمْ، فَالْمُرَائِي لَا يَقْصِدُ بِإِنْفَاقِهِ إِلَّا الْفَخْرَ عَلَى النَّاسِ بِكِبْرِيَائِهِ، وَإِشْرَاعَ الطَّرِيقِ لِخُيَلَائِهِ، فَإِنْفَاقُهُ أَثَرُ تِلْكَ الْمَلَكَةِ الرَّدِيئَةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ كَمَا تَكُونُ مِنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِ الشَّخْصِ تَكُونُ أَيْضًا بِمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْعِرْضِ، فَإِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلُ يَمْشِي يَنْظُرُ إِلَى عِطْفَيْهِ وَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute