جَعَلَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) الْآيَةَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا فِي الْيَهُودِ، فَجَعَلَ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ مُخْتَالًا أَوْ صِفَةٌ
عَلَى الْقَوْلِ بِوُقُوعِ الْمَوْصُولِ مَوْصُوفًا وَعَلَيْهِ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ أَوْ مَرْفُوعٌ عَلَى الذَّمِّ، وَأَقْرَبُ مِنْهُ، وَمِنْ قَوْلِ الْجَلَالِ أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَالْبُخْلُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَبِالتَّحْرِيكِ: وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَقُرِئَ بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْضًا.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ الْمُفَسِّرُ: يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهُمَا قَوْلَانِ: فَمَنْ خَصَّ الْبُخْلَ بِالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْيَهُودِ، فَالْمُفَسِّرُ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَخَصَّ الْكَلَامَ بِالْيَهُودِ، وَاضْطُرَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ إِلَى قَطْعِ الْكَلَامِ وَجَعَلَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِمَنْ يَحْمِلُ الْكَلَامَ عَلَى الْيَهُودِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ هَذَا الْقَطْعِ إِلَى أَهْوَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَطْعُ مِنَ ابْتِدَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ إِلَخْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ مِثْلَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى الْيَهُودِ كَأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ بِالْإِحْسَانِ خَتَمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْيَهُودَ، وَمَا هَذَا بِأَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ مِنَ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ، وَأَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ تَعْلِيلَهُ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي النَّاسِ أُمَّةٌ تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبُخْلِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُخْلِ الْبُخْلَ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَكَأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُخْبِرِ النَّاسَ، فَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَخِيلِ الْأَمْرَ بِالْبُخْلِ بِحَالِهِ وَمَقَالِهِ لِيُسَهِّلَ عَلَى نَفْسِهِ خُلُقَهُ الذَّمِيمَ وَيَجِدَ لَهُ فِيهِ أَقْرَانًا وَأَمْثَالًا، وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَمَرُوهُ بِالْبُخْلِ مِرَارًا، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَحْيَانًا حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا رَدَّ يَدَهُ بِالدَّرَاهِمِ إِلَى جَيْبِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا إِذَا كَانَ لِلْبَخِيلِ الْمُنَفِّرِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَإِعْطَاؤُهُ إِضَاعَةٌ، وَإِذَا وُضِعَ مَا يُرَادُ إِعْطَاؤُهُ إِيَّاهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا يَكُونُ خَيْرًا وَأَوْلَى، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا وَقَعَ لِي أَيْضًا حَتَّى فِي هَذَا الْأُسْبُوعِ الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ وَأَنَا فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَيْسَ لَدَيَّ الْآنَ تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ فَأُرَاجِعُ عِبَارَتَهُ فَإِنِّي أَرَى الْعَجَبَ الْعُجَابَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْأُسْتَاذُ هُوَ مُخَالَفَتُهُ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي نَقَلْتُهَا عَنْهُ آنِفًا عَنْ بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَالذَّمُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْبُخْلِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ بِاسْمِ الدِّينِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ وَلِيَتَذَكَّرِ الْقَارِئُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِيهِ الْحَوَادِثَ الَّتِي اقْتَرَنَتْ
بِزَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ إِذَا كَانَتْ تُنَاسِبُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا خَاصَّةً بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقٍ هِيَ مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَإِنِ الرَّاوِي رَأَى أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْحَادِثَةَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا خَاصَّةً، وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ لِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْبَلِيغِ، وَلْنَعُدْ إِلَى سِيَاقِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْآيَةِ قَالَ مَا مِثَالُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute