للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بِالْوَلَدِ وَاتِّصَالِ النَّسْلِ، أَخَذَ يُجَادِلُ رُسُلَنَا فِيمَا أَرْسَلْنَاهُمْ بِهِ مِنْ عِقَابِ قَوْمِ لُوطٍ، جُعِلَتْ مُجَادَلَتُهُمْ وَمُرَاجَعَتُهُمْ مُجَادَلَةً لَهُ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهَا مُجَادَلَةٌ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: - يُجَادِلُنَا - دُونَ (جَادَلَنَا) - وَالْأَصْلُ فِي جَوَابِ، " لَمَّا " أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا - لِتَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالِ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ، أَوْ لِتَقْدِيرِ مَاضٍ قَبْلَهُ كَالَّذِي قُلْنَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لِنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ٢٩: ٣١ و٣٢.

- إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَاهٌ مُنِيبٌ - هَذَا تَعْلِيلٌ لِمُجَادَلَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي عَذَابِ قَوْمِ لُوطٍ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا لَا يُحِبُّ الْمُعَاجَلَةَ بِالْعِقَابِ، كَثِيرَ التَّأَوُّهِ مِمَّا يَسُوءُ وَيُؤْلِمُ، مُنِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بِالْأَوَّاهِ الْحَلِيمِ فِي الْآيَةِ (٩: ١١٤) .

وَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا هُنَا الْمُجْمَلَةُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَجُعِلَتْ فِيهِ مُجَادَلَةً لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ لَا لِرُسُلِهِ، فَفِي أَوَّلِهِ أَنَّ الرَّبَّ ظَهَرَ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ فَظَهَرَ لَهُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَذُكِرَ خَبَرُ ضِيَافَتِهِ لَهُمْ بِالْعِجْلِ وَخُبْزِ الْمِلَّةِ وَأَنَّهُمْ أَكَلُوا وَبَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ سَارَةَ سَمِعَتْ فَضَحِكَتْ وَتَعَجَّبَتْ، وَعَلَّلَتْ تَعَجُّبَهَا بِكِبَرِهَا وَانْقِطَاعِ عَادَةِ النِّسَاءِ عَنْهَا (١٣ فَقَالَ الرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ؟) إِلَخْ.

ثُمَّ قَالَ: ٢٢ وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ (يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ) مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ (أَيْ: قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ) وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ ٢٣ فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ

وَقَالَ: أَفَهَلَكَ الْبَارُّ مَعَ الْأَثِيمِ ٢٤ عَسَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَمْسُونَ بَارًا فِي الْمَدِينَةِ، أَفَتُهْلِكُ الْمَكَانَ وَلَا تَصْفَحُ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الْخَمْسِينَ بَارًّا الَّذِينَ فِيهِ؟ (٢٦ فَقَالَ الرَّبُّ: إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ الْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ) ثُمَّ كَلَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ مِثْلَ هَذَا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ فِي عِشْرِينَ ثُمَّ فِي عَشَرَةٍ، وَالرَّبُّ يَعِدُهُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ بِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِمْ لَا يُهْلِكُ الْقَوْمَ (ثُمَّ قَالَ) ٣٣ وَذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَكَانِهِ " اهـ

فَتَأَمَّلِ الْفَرْقَ بَيْنَ عِبَارَاتِ الْقُرْآنِ الْوَجِيزَةِ الْمُفِيدَةِ الْمُنَزِّهَةِ لِلرَّبِّ - تَعَالَى - عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَعِبَارَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ فِي تَشْبِيهِ اللهِ بِعِبَادِهِ وَتَطْوِيلِهَا غَيْرِ الْمُفِيدِ!

- يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا - بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا أَجَابَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الْجِدَالِ فِي أَمْرِ قَوْمِ لُوطٍ وَالِاسْتِرْحَامِ لَهُمْ: - إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - أَيْ: إِنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ فِيهِمْ قَدْ قُضِيَ بِمَجِيءِ أَمْرِ رَبِّكَ الَّذِي قَدَّرَهُ لَهُمْ - وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ - بِجِدَالٍ وَلَا شَفَاعَةٍ فَهُوَ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>