ومما يشهد لقوة عقلها، وسداد رأيها، أن الرسول عليه السلام حين جاءه جبريل وهو في غار حراء رجع إلى زوجه يرجف فؤاده، فدخل عليها وهو يقول:«زَمِّلوني زَمِّلوني» ، حتى ذهب عنه الروع، فحدّث خديجة بالخبر وقال لها: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له:(أبشر، كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) . والحديث في «الصحيحين» .
قضى الرسول مع خديجة زهرة شبابه، فلم يتزوج عليها، ولا أحبّ أحداً مثل حبه لها، وكانت السيدة عائشة تغار منها مع أنها لم تجتمع معها ولم ترها، حتى تجرأت مرة عليه عند ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لها فقالت:
«وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان، قد أبدلك الله خيراً منها» ؟ «تعني نفسها» فغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من هذه الكلمة وقال لها: «لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» قالت: «فلم اذكرها بسوءٍ بعده أبداً» .
وروى الشيخان عنها أنها قالت:«ما غرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما عرتُ على خديجة، وما رأيتها قطَ، ولكن النبي يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول:» إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد «.
عاشت مع الرسول خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة قبل البعثة، وعشراً بعدها، ولم يتزوج الرسول الكريم امرأة عليها، ورُزِق منها جميع أولاده ما عدا إبراهيم. وحين انتقلت إلى رحمة الله راضية مرضية كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بلغ الخمسين من العمر، وليس عنده سواها، فلم يعدّد زوجاته إلا بعد وفاتها، لبعض تلك الحكم التي ذكرناها، رضي الله تعالى عنها وأرضاها.