السماء الأولى، وهو الذى صدر عنه هذا المحرك. وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية. وهو قد قال في غير ما موضع إن علومهم الإلهية تخمينات بخلاف الأمر في سائر علومهم. وأما في كتابه "المنقذ من الضلال" فأنحى فيه على الحكماء وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة هى من جنس مراتب الأنبياء. وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذى سماه "كيمياء السعادة".
وليست هذه الجملة نصاً من نصوص المشكاة، وإنما هى تلخيص لما فهمه ابن رشد وأورده بعبارته، فإن الغزالى لم يذكر صراحة أن المحرك لجرم الفلك الأقصى صدر عن الله وإنما ذكر أن "نسبة هذا المحرك (المطاع) إلى الوجود الحق نسبة الشمس في الأنوار"، فهل فهم ابن رشد من هذا معنى الصدور؟ إن الشمس لا يقال إنها صادرة عن النور المحض، وإنما يقال إنها تعيّن من تعيناته، أو مجلى من مجاليه. وكذلك يقال في المطاع (المحرك للأفلاك الذى فهمناه على أنه الأمر الإلهى) : أنه ليس صادراً عن الواحد الحق، وإنما هو مجلى من مجاليه. وعلى هذا لا يقول الغزالى بنظرية الصدور التى يقول بها الحكماء. ثم إن الغزالى يرفض فكرة المحرك الأول الذى يقول به الفلاسفة استناداً إلى أن الطبيعة لا تعمل بنفسها عملاً، بل هى مسخرة ومستعملة من جهة فاطرها. وإذا قيل إنها تفعل شيئاً، فذلك على سبيل المجاز: لأن "الفاعل" في نظر الغزالى لا يسمى فاعلاً بمجرد كونه سبباً، بل لوقوع الفعل منه على وجه الإرادة والاختيار.
وإذن فلا محل للقول بأن الغزالى يأخذ بفكرة المحرك الأول بالمعنى الفلسفى في المشكاة وينكرها في غيرها من كتبه. وإنما المحرك الأول عنده هو "المطاع"(الأمر الإلهى) وهو ليس محركاً طبيعياً ولا هو عين ذات الواحد الأول.