فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئاً إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال "ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله" لأن منهم من يرى الأشياء به (و ١٠ـ ب) . ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؛ وإلى الثانى الإشارة بقوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق} فالأول صاحب مشاهدة، والثانى صاحب الاستدلال عليه: والأول درجة الصديقين، والثانى درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهم إلا درجة الغافلين المحجوبين.
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شىء لا يفارقه ثم يظهر كل شىء، كما أن النور مع كل شىء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يُتَصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهى الذى به يظهر كل شىء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصوّر غيبته لانهدت السماوات والأرض. ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن ما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع