للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي? آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}

أورد هذه النصوص واستغلها لينسب إلى الله تعالى صفة ذميمة قبيحة يريد أن يفهمها هو من لفظة المكر.

وإذا أردنا أن نحقق تحقيقاً لغوياً في أصل معنى المكر، وجدنا أن معناه هو تدبير أمر في خفاء عمن دبر له أو عليه، وهذا التدبير هو بحد ذاته ليس فيه ما يذم، وإنما هو لون من الحكمة الداعية إلى كتمان الأمور وإخفائها، ولكن قد يكتسب المكر الذم من غايته، فإذا كانت الغاية منه شراً كان مكراً مذموماً، وإذا كانت الغاية منه خيراً كان مكراً محموداً، وهو يدل على الحكمة في التصرف.

فهو على المعنى وسيلة من الوسائل التي تستعمل في الخير فتكون خيراً، وتستعمل في الشر فتكون شراً، كسائر الوسائل التي لا شر فيها لذاتها، وإنما تكتسب الشر حينما تستعمل في الشر، وتكتسب الخير حينما تستعمل في الخير.

فالمكر قد يكون مكراً محموداً إذا كان الأمر الذي دبر فيه مؤدياً إلى نتيجة محمودة، وقد يكون مكراً مذموماً إذا كان الأمر المدبر فيه مؤدياً إلى نتيجة مذمومة، وتدبير الأمر في الخفاء لا يوصف لذاته بحسن أو قبح، بل ربما كان أصله أقرب إلى المدح منه إلى الذم، لأنه من الكتمان الحكيم.

ونستطيع أن نصور المكر المحمود الذي يستعمل في الخير بأمثلة كثيرة.

حينما تدبر أجهزة مطاردة المجرمين أمورها في خفاء وكتمان وسرية تامة، لتظفر بالقبض على المجرمين الذين يتوارون في جرائمهم عن أعين السلطة الحاكمة العادلة، ويدبرون مكايدهم الشريرة في الظلمات، ثم تقبض عليهم من حيث لا يشعرون، وتمكر بهم حتى تأخذهم وهم متلبسون بالجريمة، أفيكون مكر هذه الأجهزة مكراً في الخير أم مكراً في الشر؟

وحينما يرى الأب أن أحد أولاده جنح عن طريق الهداية، وسلك مسالك الشر والفساد، مسالك هلاكه وشقائه، ولم تُجْدِ فيه النصائح والمواعظ ووسائل

<<  <   >  >>