وبالجملة قد عرف بالإضطرار من دين الإسلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أيجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة , مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب , أو الدف. كما لم يبح لأحد أن يخرج من متابعته , وأتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة , لا في باطن الأمر , ولا في ظاهره , ولعامي ولخاصي , ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه , كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح. وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف , ولا يصفق بكف , بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) , ولعن المتشبهات من النساء بالرجال , والمتشبهين من الرجال بالنساء).
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء , كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثاً , ويسمون الرجال المغنين مخانيثاً , وهذا مشهور في كلامهم ...
وتكلم كثير من المتأخرين في السماع: هو هو محظور؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج , بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقاً إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب , والتشويق إلى المحبوب , والتخويف من المرهوب , والتخزين على فوات المطلوب , فستنزل به الرحمة. ونستجلب به النعمة , وتحرك به مواجيد أهل الإيمان , وتستجلي به مشاهد أهل العرفان , حتى يقول بعضهم: إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه: حتى يجعلونه قوتاً للقلوب. وغذاءاً للأرواح , وحادياً للنفوس , يحدوها إلى السير إلى الله , ويحثها على الإقبال عليه.
ولهذا يوجد من اعتاده , واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به , ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات: بل إذا سمعوا القرآن سمعوه , بقلوب لاهية , وألسن لاغية , وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات , وسكنت الحركات , وأصغت القلوب , وتعاطت المشروب " (١).
(١) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج ١١ ص ٥٩٩ وما بعد.