للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤ - عصره:

ولد مالك رضي اللَّه عنه في عهد الوليد بن عبد الملك وتوفي في عهد الرشيد، فعاش أربعين سنة في العصر الأموي يكوّن نفسه ويربيها وستاً وأربعين في العصر العباسي يكوّن التلاميذ ويغذيهم وقد وقف الإمام على حقيقة ما وقع في تلك العهود من اضطرابات سياسية ومنازعات فكرية، فأبى أن يزج نفسه في المعركة القائمة فبقي متحفظاً، ووصف بأنه كان أعظم الخلق مروءة وأكثرهم صمتاً، قليل الكلام، متحفظا بلسانه من الناس مداراة للناس.

وقد ظهر في عصره تميّز كل مدينة بناحية من نواحي الفكر: فالبصر بالعقيدة ومن علمائها الحسن البصري، من الكوفة بالفقه العراقي الذي يقوم على آثار ابن مسعود رضي اللَّه عنه وآراء إبراهيم النخعي ومدرسته التي يقوم عليها حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة، ودمشق وكان فقهها يقوم على تعرف آثار الصحابة والتابعين ويمثله الأوزاعي، أما المدينة كان بها الحديث وبها آثار السلف الصالح وآراء الصحابة كعمر وزيد بن ثابت رضي اللَّه عنهما، ارتضاها مالك رضي اللَّه عنه مقاماً له، شهد فيها كل أعراف الناس، وصور معاملاتهم في الجملة، ومعايشهم وأحوالهم الاجتماعية؛ فكان لهذا الأثر الأكبر في فقهه الذي جاء ملبياً لحاجات الناس ومصالحهم

وفي الحق إنه في عصر الإِمام مالك قد ابتدأت المدارس الفقهية تتلاقى، وأخذت المعارف بينها تتبادل. فكان يجتمع الشيوخ من كل البلدان في موسم الحج يتذاكرون ويتبادلون أنواع المعارف المتصلة بعلم الأثر وعلم الفقه. فهذا أبو حنيفة رضي اللَّه عنه يلتقي بمالك وكلاهما شيخ مدرسة ويتحدثان في المسائل الفقهية ويتفرقان وكلاهما يقدر رأي صاحبه، وهذا الليث بن سعد يتذاكر العلم مع مالك بالخطاب وبالكتاب، فيأخذ كل منهما مما عند الآخر.

وهكذا جاء مالك في عصر كان فيه الفقه قد نضج واستوى على سوقه، فاستطاع بفطنته وقوة عقله أن يتغذى من كل عناصره، ليخرج على الناس بآرائه وفقهه. ⦗٢١⦘

معيشته وعلاقته بالحكام:

لم تذكر كتب المناقب والأخبار موارد رزق مالك رضي اللَّه عنه موضحة مبينة، ولكن يُرجح أن مالكاً كان من مرتزقة التجارة فلقد قال ابن القاسم تلميذه: "إنه كان لمالك أربعمائة دينار يتجر بها، فمنها كان قوام عيشه". إلا أن مالكاً لم يكن من المتزهدين في أموال الخلفاء، وإن كان يتعفف عن الأخذ ممن دونهم، ويظهر أنه كان يتقبلها على مضض ليحفظ مروءته، ويدفع حاجته، وما كانت توجبه عليه مكانته الاجتماعية من إيواء لفقراء الطلاب وسد لحاجة المحتاجين. فهو يقبل هدايا الخلفاء بهذه النية، ويظهر أنه مع ذلك الغرض الحسن كان يرى فيها شيئاً ولذلك كان ينهى غيره عن قبولها.

ويبدو أن مالكاً رضي اللَّه عنه كان في أول أمره في عسرة شديدة، سببها انقطاعه لطلب العلم وإهماله مورد رزقه حتى إن ابنته كانت تبكي من الجوع أحياناً، ثم مالت عليه الدنيا من بعد وأتم اللَّه عليه نعمته وأعطاه اليسر. فكان - رحمه اللَّه - يعنى بلباسه وطعامه ومسكنه، وبكل ظاهر حاله، فكان يلبس أحسن الثياب ويأكل أطيب الطعام، حتى كان يأكل اللحم يومياً. وكان بيته مزوداً بأفخر الرياش، وكان يقول: "ما أحب لامرئ أنعم اللَّه عليه ألا يُرى أثر نعمته عليه، وخاصة أهل العلم، ينبغي لهم أن يظهروا مروءتهم في ثيابهم إجلالً للعلم".

وقد عابوا عليه تلك المعيشة الرغدة، وقالوا إنها معيشة أُمراء، وليست معيشة علماء، فكان رده عليهم أنه يعيش تلك العيشة تأويلاً لقوله تعالى: {قل من حرم زينة اللَّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين أمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} (١) .

وكان رضي اللَّه عَنهُ يقدس المدينة المنورة ويجلها، ولا يركب فيها دابة، ويقول في ذلك: "كيف أطأ بحافر دابة أرضاً تضم جدث رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم".

وقد طلب إليه الرشيد أن يخرج معه إلى العراق، فقال له: "أما الخروج معه فلا سبيل إليه، قال رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وكان الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فقال للرشيد عندئذ: "هذه دنانيركم كما هي، فلا أوثر الدنيا عن مدينة رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم".

وكان رضي اللَّه عَنهُ يرى دخول العلماء على السلاطين لدعوتهم إلى الخير، ونهيهم عن الشر، ⦗٢٢⦘ وكان يقول: "إنما يدخل العالم على السلطان لذلك". ولما قال له بعض تلاميذه: إن الناس يستكثرون دخولك على الأمراء أجاب: "لولا أني آتيهم لما رأيت النبي صَلى اللَّه عَليه وسَلم في هذه المدينة سُنة معمولاً بها".

وقد وعظ، رضي اللَّه عَنهُ، الخليفة العباسي المهدي، حينما طلب منه أن يوصيه فقال له: "أوصيتك بتقوى اللَّه وحده، والعطف على أهل بلد رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم قال: المدينة مهاجري، وبها قبري، وبها مبعثي، وأهلها جيراني، وحقيق على أمتي حفظي في جيراني، فمن حفظهم كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة".

وكان الإمام مالك، رضي اللَّه عَنهُ، يحرص مراعاة الأدب في رحاب رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم، فقد ناقشه مرة الخليفة المنصور بجوار القبر النبوي الشريف، فارتفع صوت أبي جعفر المنصور في المناقشة، فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه أدب قوماً فقال: {يا أيها الذين أمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} (٢) ، ومدح قوماً فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللَّه أولئك الذين امتحن اللَّه قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} (٣) ، فاضطر المنصور أن يذعن ويخفض صوته.


(١) الأعراف: ٣٢.
(٢) الحجرات: ٢.
(٣) الحجرات: ٣.

<<  <   >  >>