للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- أن يرتفع بها الحرج، لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (١) .

وهكذا نرى أن مالكاً رضي اللَّه عنه قد بلغ من علم السنة الذروة، ومن الفقه درجة صار فيها فقيه الحجاز الأوحد، حتى إن حماد بن زيد كان يقول لرجل جاءه في مسألة اختلف فيها الناس: "يا ⦗١٧⦘ أخي إن أردت السلامة لدينك فسل عالم المدينة وأصغِ إلى قوله فإنه حجة بين الناس".

وقد نال مالك رضي اللَّه عنه من ثناء العلماء حظاً وافراً، فقال في حقه الإمام أبو حنيفة رضي اللَّه عنه: "ما رأيت أسرع منه بجواب ونقد تام".

وشهد له بالفضل أبو يوسف فكان يقول فيه: "ما رأيت أعلم من ثلاثة: مالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة" إذ كان الأخيران شيخيه فوضع مالك في مرتبتهما.

وقال في شأنه تلميذه الإِمام الشافعي رضي اللَّه عنه: "مالك حجة اللَّه على خلقه بعد التابعين، ومالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، ومالك معلمي، وما أحد أمنّ عليّ من مالك، وجعلته حجة فيما بيني وبين اللَّه".

وقال فيه أيضاً: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم"، وكذلك قال فيه: "إذا جاءك الحديث عن مالك فشد يدك عليه"

وقال الإِمام أحمد بن حنبل فيه: "مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومن مثل مالك؟ متبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب".

وقد تأول التابعون وتابعو التابعين في الإِمام مالك رضي اللَّه عنه بأنه العالم الذي بشر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الحديث الشريف: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإِبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة) (٢) .

وأخرج ابن عبد البر وغيره عن مصعب بن عبد اللَّه الزبيري عن أبيه قال:

"كنت جالساً بمسجد رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم مع مالك، فجاء رجل فقال: أيكم أبو عبد اللَّه مالك؟ فقالوا: هذا؛ فجاء فسلم عليه واعتنقه وقبله بين عينيه وضمه إلى صدره وقال: واللَّه لقد رأيت البارحة رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم جالساً في هذا الموضع فقال: هاتوا مالكاً، فأتي بك ترعد فرائصك، فقال: ليس عليك بأس يا أبا عبد اللَّه وكناك وقال: اجلس فجلست، فقال: افتح حجرك ففتحت فملأه مسكاً منثوراً وقال: ضمه إليك وبثه في أمتي، فبكى مالك طويلاً وقال: الرؤيا تسر ولا تغر، وإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني اللَّه".

لذلك لا نعجب، إذا علمنا أن الناس كان يشدون الرحال إليه، من جميع البلاد الإِسلامية، ويزدحمون على بابه طلباً للعلم.

وشهدت القرون بفضله ومكانته وبأن فقهه يجمل عناصر العالمية والتقدم؛ ففي المغرب مثلاً ⦗١٨⦘ كانت حياته وما فيها من ملامح قوية موضع الأسوة والقدوة فدرسوها في مدارسهم صغاراً وكانت المثل الأعلى لهم كباراً. وبفقهه ساس المغرب خلفاؤه وحكم قضاته، وبهديه دعا مرشدوه، فكان مالك - رضي اللَّه عنه - للمغرب المظهر الكامل للإِسلام عروبة وديناً.

وقد تهيأت الأسباب ليكون الإمام مالك بهذا القدر من العلم: فمواهبه وصفاته الشخصية، وشيوخه ودراساته، وعصره وبيئته، كل هذا هيأ له أسباب العلم، فاغترف من بحاره. ولنذكر في كل واحد من هذه الأسباب كلمة تكشفه وتجليه:


(١) الحج: ٧٨.
(٢) الترمذي: ج ٥/ كتاب العلم باب ١٨/٢٦٨٠.

<<  <   >  >>