٣٦٢ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثنا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، ثنا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذِ اسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟» قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، أَوْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، قَالَ: «أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَدَعَا رَسُولُ ⦗٣٦٠⦘ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَنُودِيَ يَوْمًا فِي الْخَيْلِ فَكَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ رَكِبَ، وَأَوَّلَ فَارِسٍ اسْتُشْهِدَ، فَبَلَغَ أُمَّهُ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ ابْنِي، إِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ وَلَمْ أَحْزَنْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ بَكَيْتُهُ مَا عِشْتُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثٍ، إِنَّهَا لَيْسَتْ بِجَنَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا جُنَّةُ فِي جِنَانٍ، فَالْحَارِثُ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى» فَرَجَعَتْ وَهِيَ تَضْحَكُ وَتَقُولُ: بَخٍ بَخٍ لَكَ يَا حَارِثُ " ⦗٣٦١⦘ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَفَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ قَوْلَهُ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ إِيمَانِهِ مَا هِيَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاسْتِكْمَالِهِ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ» فَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَاسْتِكْمَالُهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الْمُفْتَرَضَةِ، وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، فَأَمَّا اسْمُ الْإِيمَانِ وَحُكْمُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَكْمِلْهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ إِذَا دَخَلَ النَّاسُ فِيهَا اسْتَحَقُّوا اسْمَهَا عِنْدَ ابْتِدَائِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا، ثُمَّ يَتَفَاضَلُونَ فِي اسْتِكْمَالِهَا بِالِازْدِيَادِ فِي الْأَعْمَالِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْقَوْمُ يُصَلُّونَ، فَمِنْ بَيْنِ مُسْتَفْتِحٍ لِلصَّلَاةِ قَائِمٌ وَرَاكِعٌ وَسَاجِدٌ وَجَالِسٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ جَمِيعًا: مُصَلُّونَ، قَدْ لَزِمَهُمُ الِاسْمُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلُوهَا، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ، لَوْ أَنَّ نَفَرًا أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا دَارًا فَدَخَلَهَا أَحَدُهُمْ، فَلَمَّا تَغَيَّبَ الْبَابَ أَقَامَ مَكَانَهُ، وَجَاوَزَهُ الثَّانِي بِخُطًى، وَمَضَى الثَّالِثُ إِلَى وَسَطِهَا، وَالرَّابِعُ إِلَى مُنْتَهَاهَا، لَقِيلَ لَهُمْ جَمِيعًا: دَاخِلُونَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ دُخُولًا مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ الدُّخُولُ فِيهِ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ. قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: ٢٠٨]
⦗٣٦٢⦘ وَقَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: ٢] قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: ٧] قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَمَّا كَانَتِ الْمَعَاصِي بَعْضُهَا كُفْرًا وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِكُفْرٍ، فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ، نَوْعٌ مِنْهَا كُفْرٌ، وَنَوْعٌ فِسْقٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ، وَنَوْعٌ عِصْيَانٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَا فُسُوقٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَرَّهَهَا كُلَّهَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمَّا كَانَتِ الطَّاعَاتُ كُلُّهَا دَاخِلَةً فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا خَارِجًا مِنْهُ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: حَبَّبَ الْإِيمَانَ وَالْفَرَائِضَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ، بَلْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فَقَالَ: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: ٧] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ قَدْ حَبَّبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ، حُبَّ تَدَيُّنٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَبَّبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَوْلِهِ: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: ٧] ، وَيَكْرَهُونَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي مِنْهَا، وَالْفُسُوقَ وَسَائِرَ الْمَعَاصِي كَرَاهَةَ تَدَيُّنٍ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَرَّهَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: ٧]
⦗٣٦٣⦘ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ» لِأَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ السَّيِّئَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا حَضَرَنَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا إِيمَانٌ وَإِسْلَامٌ وَدِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمْسَكْنَا عَنْ كَبِيرٍ مِنْهَا اخْتِصَارًا، وَكَرَاهَةً لِلتَّطْوِيلِ، وَاسْتَغْنَيْنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ، ثُمَّ نَبْنِي الْآنَ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْمُصْطَفَى رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدَّالَّةِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute