للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٨٠٠ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، ثنا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَكِيمِ الصَّنْعَانِيِّ، قَالَ: «ذُكِرَ لِي أَنَّ التَّلْبِيَةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ يُجَدَّدُ بِهَا الْإِيمَانُ، وَيَثْبُتُ بِهَا الْإِسْلَامُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ فَهُوَ وَتَصْدِيقُ الْقَلْبِ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَعْيَانِهِمَا ⦗٧٨٩⦘. يُقَالُ لَهُمْ: كَيْفَ يَخْتَلِفُ شَيْئَانِ فِي أَعْيَانِهِمَا وَيَتَّفِقَانِ فِي الِاسْمِ مِنْ جِهَةِ مَا اخْتَلَفَا؟ فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي اللُّغَةِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: دِينِي وَدِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ، وَفِعْلُ مُحَمَّدٍ غَيْرُ فِعْلِهِ لِأَنَّ ضَمِيرَهُ غَيْرَ ضَمِيرِهِ، وَقَوْلَهُ غَيْرَ قَوْلِهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ذَلِكَ يُرِيدُ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دِينِي، وَلَا يُرِيدُ أَنَّ ضَمِيرَ مُحَمَّدٍ هُوَ ضَمِيرِي لِأَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي مَجَازِ اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْآخَرُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَمَّا الظَّاهِرُ فِي اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمَجَازِ، فَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ: جَاءَنَا مُحَمَّدٌ بِالْإِيمَانِ، وَشَرَحَ لَنَا الْإِيمَانَ، وَجَاءَنَا بِالدِّينِ فَإِنَّمَا يَعْنُونَ بَيَانَ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرَهِ كَيْفَ هُوَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ فَسَّرَ لَنَا مَا الْإِيمَانُ فَسُمِّيَ تَفْسِيرُ الْإِيمَانِ إِيمَانًا، فَأَمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّمَا الْإِيمَانُ فِعْلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ فِعْلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَسَمَّى اللَّهُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَمْرِ بِهِ إِيمَانًا، وَالْإِيمَانُ فِي عَيْنِهِ فِعْلُ الْمُؤْمِنِ كَمَا يَقُولُ: جَاءَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَاسْتَخْرَجَهَا لَنَا، وَالصَّلَاةُ فِي عَيْنِهَا لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ ⦗٧٩٠⦘ وَبِالشَّرْحِ، وَلَكِنَّهَا الْمَأْمُورُ بِهَا الْمَشْرُوحَةُ لِلْعِبَادِ لِأَنَّهَا فِي عَيْنِهَا افْتِتَاحٌ بِتَكْبِيرٍ، وَقِرَاءَةٌ، وَرُكُوعٌ، وَسُجُودٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ الْأَمْرِ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: دِينِي وَدِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ يرِيدُ أَنِّي أَدِينُ بِالدِّينِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحداً إِنَّمَا يَعْنِي أَنَّا قَدْ صَلَّيْنَا الصَّلَاةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا جَمِيعًا إِلَّا أَنَّ حَرَكَاتَهُ وَسُكُونَهُ فِي الصَّلَاةِ هِيَ حَرَكَاتِي وَسُكُونِي وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى وَاحِدًا لَكَانَ دِينِي وَدِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لَكَانَ لِي مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا لَهُ فَسَاوَيْتُهُ فِي الْأَجْرِ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يَقُولُ هَذَا مُسْلِمٌ فَكَذَلِكَ لَمْ يَعْنِ أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ بَلِ الْقَوْلُ فِي عَيْنِهِ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ وَصَوْتٌ وَحَرَكَاتٌ، وَالتَّصْدِيقُ فِي الْقَلْبِ عَقْدُ ضَمِيرٍ لَا صَوْتٌ، وَلَا حُرُوفٌ، وَلَا حَرَكَاتٌ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ تَصْدِيقًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ قَوْلًا، فَكَانَ مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْمُنَافِقِينَ قَدْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا. قَالَ: وَيُقَالُ لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنِ الْإِيمَانِ: هُوَ بِعَيْنِهِ لَا يَتَقَلَّبُ أَبَدًا أَمْ لِلطَّاعَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؟ ⦗٧٩١⦘ فَإِنْ قَالُوا: بِعَيْنِهِ، قِيلَ لَهُمْ: فَلَا يَتَقَلَّبُ أَبَدًا مَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ السَّبْتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشُحُومَ الْبُطُونِ وَكُلَّ ذِي ظُفُرٍ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَرَّمًا، وَكَانُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَلَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ حَرَّمَتْهُ بَعْدَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، مَا حُكْمُهُمْ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: كُفَّارًا، قِيلَ لَهُمْ: فَالْأَمْرُ الَّذِي كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا لَوْ أَتَى بِهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كُفْرًا، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِعَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ لَمَا انْقَلَبَ أَبَدًا فَقَدْ ثَبَتَ أََنَّهُ لِِلطَّاعَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بِعَيْنِهِ. إِنْ كَانَ فِي حَالٍ مِنْهُمْ إِيمَانًا، ثُمَّ صَارَ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى كُفْرًا فَقَدْ ثَبَتُوا أَنَّهُ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ مَا قَلَبَهُمُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِيمَانًا، وَكَانَ تَرْكُهُ كُفْرًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. قِيلَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ قَالُوا حِينَ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ: اللَّهُ صَادِقٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْ صَدَّقْنَا بِقَوْلِهِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كُنَّا ⦗٧٩٢⦘ أَوَّلًا مَخَافَةَ عَيْبِ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا بَدَّلَ دِينَهُمُ اللَّهَ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ قَدْ نَسَخَهَا. فَإِنْ قَالُوا: هُمْ كُفَّارٌ، قِيلَ: وَلِمَ؟ . فَإِنْ قَالُوا: لِيُذْعِنُوا وَيَخْضَعُوا بِالطَّاعَةِ. قِيلَ لَهُمْ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ إِيمَانًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ هُوَ عَلَيْنَا حَقٌّ نُقِرُّ بِهِ وَنُصَدِّقُ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَرَاهَةَ اللَّائِمَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بَعْدُ، قِيلَ لَهُمْ: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ يُعَبِّرُوا عَنْهَا، أَنَّا نَفْعَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا كَفَرُوا فِي قَوْلِكُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ إِرَادَةٌ وَوَعْدٌ بِالْقَوْلِ أَنْ يَفْعَلُوا، وَهُنَا خِلَافُ مَا ادَّعَيْتُمْ فِي اللُّغَةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ هَلْ كَفَرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ تَرَكَ إِيمَانًا بِتَحْلِيلِهِ الْخَمْرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَقَرَّ بِاللَّهِ ⦗٧٩٣⦘ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَمْرَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ثُمَّ اسْتَحَلَّهَا هَلْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أَمْ بِالْخَمْرِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، قِيلَ: فَمَا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ مِنْهُ؟ أَيَسْتَتِيبُهُ مِنْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ أَمْ يَسْتَتِيبُهُ مِنَ الْجَحْدِ بِاللَّهِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ لَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بِعَيْنِهِ. إِنْ كَانَ فِي حَالٍ مِنْهُمْ إِيمَانًا، ثُمَّ صَارَ فِي الْحَالِ الْأُخْرَى كُفْرًا فَقَدْ ثَبَتُوا أَنَّهُ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ كَيْفَ مَا قَلَبَهُمُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِيمَانًا، وَكَانَ تَرْكُهُ كُفْرًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. قِيلَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ قَالُوا حِينَ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ: اللَّهُ صَادِقٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْ صَدَّقْنَا بِقَوْلِهِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا كُنَّا أَوَّلًا مَخَافَةَ عَيْبِ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا بَدَّلَ دِينَهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ قَدْ نَسَخَهَا. فَإِنْ قَالُوا: هُمْ كُفَّارٌ، قِيلَ: وَلِمَ؟ . فَإِنْ قَالُوا: لِيُذْعِنُوا وَيَخْضَعُوا بِالطَّاعَةِ. قِيلَ لَهُمْ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ إِيمَانًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ هُوَ عَلَيْنَا حَقٌّ نُقِرُّ بِهِ وَنُصَدِّقُ، وَلَكِنَّا نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَرَاهَةَ اللَّائِمَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بَعْدُ، قِيلَ لَهُمْ: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُقِرُّوا بِالْفِعْلِ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ إِرَادَةٌ يُعَبِّرُوا عَنْهَا، أَنَّا نَفْعَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا كَفَرُوا فِي قَوْلِكُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ إِرَادَةٌ وَوَعْدٌ بِالْقَوْلِ أَنْ يَفْعَلُوا، وَهُنَا خِلَافُ مَا ادَّعَيْتُمْ فِي اللُّغَةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ هَلْ كَفَرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ تَرَكَ إِيمَانًا بِتَحْلِيلِهِ الْخَمْرَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَبِالْقُرْآنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ أَقَرَّ بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْخَمْرَ عَلَيْهِ حَرَامٌ ثُمَّ اسْتَحَلَّهَا هَلْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أَمْ بِالْخَمْرِ؟ فَإِنْ قَالُوا: بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، قِيلَ: فَمَا عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ مِنْهُ؟ أَيَسْتَتِيبُهُ مِنْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ أَمْ يَسْتَتِيبُهُ مِنَ الْجَحْدِ بِاللَّهِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِجَمِيعِ الْفَرَائِضِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ زَعَمُوا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ الدِّينِ، وَالْكُفْرَ بِهَا الْكُفْرُ بِجَمِيعِ الدِّينِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ مِنْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ. أَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِمَا سِوَاهَا فَقَدْ كَفَّرُوهُ وَفِيهِ أَكْثَرُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ بَعْدَ اسْتِحْلَالِهِ الْخَمْرَ: الزِّنَا حَلَالٌ ازْدَادَ بِذَلِكَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ يَزْدَادُ كُفْرًا وَلَا يَكُونُ بِازْدِيَادِهِ الْكُفْرَ تَارِكًا لِلْإِيمَانِ فَقَدْ أَصَابُوا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لَمْ يَتْرُكْ بِذَلِكَ إِيمَانًا فَهُوَ إِذَا رَجَعَ عَنْ تِلْكَ الْخَلَّةِ لَمْ يُصِبْ بِهَا إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَزْدَادُ كُفْرًا إِلَى كُفْرٍ بِلَا تَرْكِ إِيمَانٍ قَدْ يَزْعُمُ أَنَّ الشَّمْسَ رَبَّهُ ثُمَّ يُضِيفُ إِلَيْهَا الْقَمَرَ فَيَزْدَادُ كُفْرًا، وَلَمْ يَتْرُكْ بِذَلِكَ إِيمَانًا ⦗٧٩٤⦘. قُلْنَا: لَيْسَ عَنْ كَافِرٍ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ سَأَلْنَاكُمْ، إِنَّمَا سَأَلْنَاكُمْ عَنْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ أَيْضًا رَبَّهُ هَلْ تَرَكَ إِيمَانًا بِالتَّوْحِيدِ، وَلَمْ يُنْكِرِ الْخَالِقَ فَإِنَّمَا يُصَابُ الْإِيمَانُ بِتَرْكِ الْكُفْرِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْفِي الشِّرْكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَحْدَهُ وَيَنْفِي الشَّرِيكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، وَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُقِرَّ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا وَيُؤْمِنَ بِهِ، وَمِنْهُ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: أَقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُكَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَمَّنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لِلَّهَ وَلَدًا، ثُمَّ عَبَّرَ بِلِسَانٍ عَمَّا فِي قَلْبِهِ هَلِ الْعَقْدُ مِنْهُ كُفْرٌ مِنْهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ قَوْلُهُ: لِلَّهِ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ أَوْ لَيْسَ بِإِلَهٍ إِذَا قَالَهُ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي قَلْبِهِ هَلْ يَكُونُ الْعِبَارَةُ مِنْهُ بِذَلِكَ كُفْرًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: فَكَذَلِكَ إِقْرَارُهُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَكُونُ إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ إِقْرَارَهُ الْأَوَّلَ إِيمَانٌ وَتَكْرَارَهُ لَيْسَ بِإِيمَانٍ ⦗٧٩٥⦘. قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: عِبَارَةٌ كَعِبَارَةٍ أَوَّلُهَا الْمُبْتَدَأُ بِهَا كُفْرٌ، وَالثَّانِي لَا كُفْرَ وَهَذَا التَّنَاقُضُ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ إِيمَانٌ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْإِقْرَارِ، قِيلَ لَهُمْ: فَقَدِ ازْدَادَ الْعَبْدُ إِيمَانًا فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ التَّكْرَارِ وَكَرَّرَ غَيْرُهُ كَانَ هَذَا الْمُكَرِّرُ أَكْثَرَ إِيمَانًا مِنَ الَّذِي لَمْ يُكَرِّرْهُ، وَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي أَعْظَمِ مِمَّا عِبْتُمْ عَلَى مُخَالِفِيكُمْ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ الْفَرْضَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَجَعَلْتُمْ أَنْتُمُ النَّافِلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ، فَقَدْ ثَبَتُّمُ التَّطَوُّعَ إِيمَانًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: تَرْكُهُ كُفْرٌ، إِذْ كَانَ ضِدُّهُ إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ تَكْرَارَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِيمَانٌ، وَلَا يَكُونُ التَّكْرَارُ فِي التَّطَوُّعِ إِيمَانًا. قِيلَ لَهُمْ: وَإِذَا جَاءَ بِفَرِيضَةٍ كَالصَّلَاةِ فِيهَا التَّشَهُّدُ وَالذِّكْرُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُ اللَّهِ وَطَلَبُ رِضَاهُ ثُمَّ ضَيَّعَهَا مِنَ الْغَدِ أَيُضَيِّعُهَا وَهُوَ عَلَى خَوْفِهِ الْأَوَّلِ وَخُضُوعِهِ لِلَّهِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ نَقَصَ مِنْ إِيمَانِهِ إِذْ زَالَ خَوْفُهُ الْأَوَّلُ وَرَغْبَتُهُ الَّتِي هَاجَتْهُ عَلَى الصَّلَاةِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ تَكْرَارُهُ مِنْ إِيمَانِهِ فِي فَرْضٍ وَلَا غَيْرِهِ ⦗٧٩٦⦘. قِيلَ لَهُمْ: فَكَذَلِكَ لَيْسَ تَكْرَارُ الْكَافِرِ الْجَحْدَ بِلِسَانِهِ وَإِضَافَتَهُ إِلَى اللَّهِ الْوَلَدَ وَالشَّرِيكَ مِنْ كُفْرِهِ. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ مِنْ كُفْرِهِ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَا جَعَلَ أَوَّلَ الْجَحْدِ بِلِسَانِهِ كُفْرًا، وَلَمْ يَجْعَلِ الْجَحْدَ الثَّانِي بِلِسَانِهِ كُفْرًا وَهُمَا وَاحِدٌ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُمَا ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا هُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَحْدِ فَلَئِنْ كَانَ كِلَاهُمَا جَحْدًا، وَاحِدُهُمَا كُفْرٌ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا كِلَاهُمَا كُفْرًا وَاحِدُهُمَا جَحْدٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِجَحْدٍ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ إِلَّا الْجَحْدُ، وَهَلْ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ جَحَدَ رَجُلًا حَقَّهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَجَحَدَهُ أَنْ يُقَالَ كُلَّمَا سَأَلَهُ حَقَّهُ جَحَدَهُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ كَفَرَهُ حَقَّهُ، فَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ الْجَحْدَيْنِ. فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ كُفْرٌ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِكُفْرٍ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَأْتُوا بِحُجَّةٍ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْأَوَّلَ، وَالْآخَرَ لَيْسَ بِكُفْرٍ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ عَقْدٌ فِي الْقَلْبِ، وَلَيْسَ الْجَحْدُ بِاللِّسَانِ مِنَ الْكُفْرِ فِي شَيْءٍ، فَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ إِيمَانٌ وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي شَيْءٍ. فَإِنْ قَالُوا: بَيْنَهُمَا فُرْقَانٌ، سُئِلُوا عَنِ الْفُرْقَانِ، وَلَنْ يَأْتُوا بِهِ ⦗٧٩٧⦘. وَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَمَّنْ كَانَ يُوَحِّدُ اللَّهَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ هَلِ ازْدَادَ إِيمَانًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ كَذَلِكَ مَنْ كَانَ يَكْفُرُ بِاللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَفَرَ بِهِ فَقَدِ ازْدَادَ كُفْرًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، كِلَاهُمَا يَزْدَادُ، هَذَا الْكَافِرُ يَزْدَادُ كُفْرًا، وَهَذَا الْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ إِيمَانًا، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَخْرُجَا مِنْ بَابِ تَصْدِيقٍ وَجَحْدٍ. قِيلَ لَهُمْ: أَلَيْسَ هُوَ جَحْدٌ بَعْدَ جَحْدٍ فَكَذَلِكَ إِذَا كَرَّرَ الْجَحْدَ فَتَكْرَارُهُ كُلُّهُ كُفْرٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِذَا أَتَى بِجَحْدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبِدَايَةِ لِمَعْنَيَيْنِ مُفْتَرِقَيْنِ كَانَ كُفْرًا فَإِذَا أَتَى بِجَحْدَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ كَانَتِ الْبِدَايَةُ كُفْرًا، وَالثَّانِي لَيْسَ بِكُفْرٍ. قِيلَ لَهُمْ: هَذَا تَحَكُّمٌ، فَأْتُوا بِلُغَةٍ أَوْ مَعْقُولٍ وَنَحْنُ مُوجِدُوهُمْ فِي اللُّغَةِ مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ إِذَا سَمِعَتِ النَّصْرَانِيَّ تَشْهَدُ أَنَّ لِلَّهَ وَلَدًا، قَالُوا لَهُ: تَكَلَّمْتَ بِالْكُفْرِ، وَهَذَا يَا عَدُوَّ اللَّهِ الْكُفْرُ، وَإِنْ كَانَ يُكَرِّرُهَا إِنْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ فَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِالْكُفْرِ مُكَرِّرٌ فَكَذَلِكَ الْمُكَرِّرُ لِلشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ أَبَدًا ⦗٧٩٨⦘. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَحَكَى عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ أُسْتَاذِي الْمُرْجِئَةِ: النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ كَالدَّابَّةِ الْبَلْقَاءِ لَا يُسَمَّى بَلْقَاءَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا اللَّوْنَانِ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُسَمِّ الدَّابَّةَ بَلْقَاءَ، وَلَا يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّوْنَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ بَلْقَاءَ فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الدَّابَّةِ سُمِّيَا بَلْقَاءَ، فَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ إِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُسَمَّيَا إِيمَانًا وَلَا يُسَمَّى الْإِنْسَانُ بِهِ مُؤْمِنًا، فَإِذَا اجْتَمَعَا سُمِّيَا إِيمَانًا، وَيُسَمَّى الْمُؤْمِنُ بِاجْتِمَاعِهِمَا مُؤْمِنًا. قَالُوا: وَذَلِكَ أَيْضًا كَالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ لَا يَتَحَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا حَلَقَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبْتُمُوهُمَا هُمَا عَلَيْكُمْ لَا لَكُمُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إِذَا انْفَرَدَتْ بِأَحَدِ اللَّوْنَيْنِ لَمْ تُسَمَّ بَلْقَاءَ أَبَدًا، وَلَا يُسَمَّى اللَّوْنُ بَلْقَاءَ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الدَّابَّةِ، وَأَنْتُمْ قَدْ تُسَمُّونَ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا إِذَا اعْتَقَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ إِذَا كَانَ أَخْرَسَ أَوْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْهُ إِيمَانًا ⦗٧٩٩⦘، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مَرَّةً ثُمَّ سَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَبَدًا لَكَانَ عِنْدَكُمْ مُؤْمِنًا، وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ الْبَلْقَاءَ زَالَ عَنْهَا الْبَيَاضُ وَبَقِيَ السَّوَادُ وَبَقِيَ الْبَيَاضُ لَزَالَ عَنْهَا اسْمُ الْبَلَقِ، فَلَمْ يُسَمَّ بَلْقَاءَ أَبَدًا، وَلَمْ يُسَمَّ اللَّوْنُ الْوَاحِدُ إِذَا بَقِيَ بَلْقَاءَ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الْمَوْلُودُ عَلَى الْإِيمَانِ النَّاشِئُ عَلَيْهِ الْمُعْتَقِدُ لِلْمَعْرِفَةِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ هُوَ مُؤْمِنٌ عِنْدَكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ أَبَدًا وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ نُتِجَتْ وَلَوْنُهَا كُلُّهَا بَيَاضٌ لَا سَوَادَ فِيهِ أَوْ سَوَادٌ لَا بَيَاضَ فِيهِ لَمْ يُسَمَّ بَلْقَاءَ أَبَدًا، فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الدَّابَّةُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ، وَالْبَلَقُ مَثَلًا لِلْإِيمَانِ إِذَا افْتَرَقَ مَعْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِقْرَارَ فِعْلَانِ يَزُولُ أَحَدُهُمَا وَيَثْبُتُ الْآخَرُ، وَفِعْلُ الْقَلْبِ يُسَمَّى تَصْدِيقًا فِي اللُّغَةِ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَهُ مُعْتَقِدًا لِلْمَعْرِفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْقَلْبِ خَاضِعًا مُذْعِنًا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ إِيمَانًا وَلَوْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ إِيمَاءً وَلَمْ يُعْلَمْ مَا فِي قَلْبِهِ يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ إِيمَانًا، وَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ، وَجَرَى عَلَى فَاعِلِهِ اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَأَحْكَامِهِ فَكَانَ مُؤْمِنًا فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ مَعًا، وَالدَّابَّةُ إِذَا ظَهَرَ فِيهَا أَحَدُ اللَّوْنَيْنِ ⦗٨٠٠⦘، وَلَمْ يَظْهَرِ الْآخَرُ لَمْ يُسَمَّ بَلْقَاءَ، وَلَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ اللَّوْنُ الْمُنْفَرِدُ بَلْقَاءَ أَبَدًا، فَقَدِ افْتَرَقَ مَعْنَى الْإِيمَانِ وَاسْمُهُ مِنْ مَعْنَى الْبَلَقِ فِي الدَّابَّةِ وَاسْمُهُ، وَفَارَقَ الْمُؤْمِنُ الدَّابَّةَ الْبَلْقَاءَ فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِثْلُ الْآخَرِ. وَأَمَّا ضَرْبُكُمُ الْمَثَلَ بِالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ فَذَلِكَ أَبْعَدُ فِي الْمَثَلِ، وَلَيْسَ يَخْلُو ضَرْبُكُمُ الْمَثَلَ بِهِمَا مِنْ أَنْ تَكُونُوا مَثَّلْتُمُ النَّوْرَةَ وَالزَّرْنِيخَ بِالْإِيمَانِ أَوْ بِالْمُؤْمِنِ فَإِنْ كَانَ بِالْمُؤْمِنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ جِسْمَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فَيَكُونُ مِنْهُمَا الْإِيمَانُ كَالنَّوْرَةِ وَالزَّرْنِيخِ يَكُونُ مِنْهُمَا الْحَلْقُ وَهَذَا مُحَالٌ مِنَ الْكَلَامِ. وَإِنْ تَكُونُوا مَثَّلْتُمُوهُمَا بِالْإِيمَانِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ جِنْسِ صَاحِبِهِ وَلَا جَوْهَرِهِ فَإِذَا اجْتَمَعَا وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَانَ مِنْهُمَا الْحَلْقُ فَإِنْ يَكُنِ الْحَلْقُ مَثَلًا لِلْإِيمَانِ فَالْإِيمَانُ إِذًا مَعْنًى مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْإِقْرَارِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ بِإِيمَانٍ كَمَا أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِزَرْنِيخٍ وَلَا نَوْرَةٍ. وَإِنْ تَكُونُوا مَثَّلْتُمُوهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَتَوَلَّدُ عَنْهُمَا كَالطَّاعَةِ يَتَوَلَّدُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ فَقَدْ جَعَلْتُمُ ⦗٨٠١⦘ اثْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي أَعْيَانِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمٍ غَيْرِ اسْمِ الْآخَرِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا غَيْرُهُمَا، فَالْإِيمَانُ إِذًا اثْنَانِ يُوجِبَانِ الطَّاعَةَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِكُمْ. فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُسَمَّى حَالِقًا حَتَّى يَجْتَمِعَا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِيمَانًا حَتَّى يَجْتَمِعَا. قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْحَلْقَ فِعْلٌ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُمَا سُمِّيَا بِهِ حَالِقَانِ لَا لِأَعْيَانِهِمَا حِينَ اجْتَمَعَا، وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَ الْإِقْرَارَ وَالْمَعْرِفَةَ إِيمَانًا فِي أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْهُمَا طَاعَةٌ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا كَانَ الْحَلْقُ مِنْ فِعْلِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَحْلِقَا فَالِاسْمُ لَهُمَا ثَابِتٌ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ. قِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُمَا لَا يَحْلِقَانِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمَا الِاسْمُ ثَابِتًا حَتَّى يَجْتَمِعَا مَعَ الْمَاءِ وَهُوَ جِسْمٌ ثَالِثٌ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يُسَمَّيَانِ إِيمَانًا حَتَّى يَجْتَمِعَ مَعَهُمَا جِسْمٌ ثَالِثٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِمُخَالِفِيكُمْ أَيْضًا أَنْ يَضْرِبُوا مَثَلًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ ⦗٨٠٢⦘ لِطَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَيَقُولُونَ: مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لِلْمَشْيِ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ لَا يُمْشَى وَلَا يَطْلِقُ الْبَطْنَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِ أَخْلَاطٌ شَتَّى فَيُسَمَّى مُمْشِيًا، فَهَلْ تَجِدُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فُرْقَانًا فِيمَا مَثَّلُوا وَمَثَّلْتُمْ؟ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا بِحَقِّ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ إِذَا أَتَى بِهِمَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَلَيْسَ يَكُونُ يُسَمَّى مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ يُجْزِئُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتْرُكُهُ فِي الثَّانِي؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، حَتَّى يَدُومَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَتُوبَ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ عَرَضَتْ بِهِ الْعَوَارِضُ الْمُشَكِّكَةُ عَنْ عَوَارِضِ الشَّيْطَانِ أَوْ حِجَاجُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ، وَيَحْبِسَ نَفْسَهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَلَا يَدَعْ قَلْبَهُ يَرْكَنُ إِلَى زِينَةِ غُرُورٍ مِنْ حُجَّةِ عَدُوٍّ وَلَا تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، وَيَصْبِرُ عَلَى إِيمَانِهِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَلَوْ تَرَكَ الصَّبْرَ عَلَى إِيمَانِهِ، أَلَيْسَ كَانَ كَافِرًا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ: قِيلَ لَهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى إِيمَانِهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا كَمَا لَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ ⦗٨٠٣⦘. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يَقُومُ بِالْمُؤْمِنِ وَهُوَ غَيْرُهُ. قِيلَ لَهُمْ: لَمْ نَسْأَلْكُمْ عَنْ قِيَامِ فِعْلٍ بِفَاعِلٍ إِنَّمَا سَأَلْنَاكُمْ عَنْ فِعْلٍ لَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالصَّبْرِ فِيهَا عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَالصَّبْرُ هُوَ إِمْسَاكُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَذَلِكَ مِنْ صَلَوَاتِهِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ إِقْبَالَهُ وَتَرْكَهُ الْإِدْبَارَ عَنِ الْقِبْلَةِ وَصَمْتَهُ عَنِ الْكَلَامِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ ذَلِكَ كَانَ خَارِجًا مِنَ الصَّلَاةِ. فَكَذَلِكَ الصَّابِرُ عَنْ إِيمَانِهِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ فَيَعْتَقِدَ سِوَاهُ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِرَبِّهِ فَصَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِهِ لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ كُلُّ صَبْرٍ هُوَ لِلَّهِ طَاعَةٌ فَهُوَ إِيمَانٌ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَبْرٌ إِيمَانًا، وَصَبْرٌ لَا إِيمَانٌ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقٌ إِيمَانًا، وَتَصْدِيقٌ لَا إِيمَانٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا وَجَبَ لِاسْمٍ فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا مَا كَانَ الِاسْمُ يَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ، وَيَزُولُ بِزَوَالِهِ، فَالصَّبْرُ لَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَأَصْلُ الصَّبْرِ عَلَى إِمْسَاكِ الْإِيمَانِ، وَضِدُّهُ تَرْكُهُ، وَيَقَعُ بَدَلَهُ الْكُفْرُ، وَالْفَرْعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَمَعْنًى مِنْهُ الصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ ⦗٨٠٤⦘ الْمَفْرُوضِ، وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَعْضٌ، وَكَذَلِكَ الْيَقِينُ، وَالْحُبُّ، وَالرَّجَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرِّضَا، وَالتَّوَكُّلُ فَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ سَأَلَ سَائِلٌ مِنَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ: هَلْ لِلَّهِ دِينٌ مَنْ أَصَابَهُ كَانَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا؟ فَيُقَالُ لَهُ: نَعَمْ دِينُ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ لَهُ أَصْلٌ مَنْ أَصَابَهُ كَانَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا بِالْخُرُوجِ مِنْ مِلَلِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ الْأَصْلُ فَرْعٌ وَهُوَ الْقِيَامُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَكَمَالُ الْأَصْلِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقَائِمِ فَإِنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ فَقَدِ انْتَقَصَ مِنَ الْفَرْعِ وَلَمْ يَزَلِ الْأَصْلُ. فَإِنْ قَالَ: بَيِّنْ لَنَا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ؟ قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ: التَّصْدِيقُ بِاللَّهِ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ بِإِعْطَاءِ الْعَزْمِ لِلْأَدَاءِ بِمَا أَمَرَ بِهِ مُجَانِبًا لِلِاسْتِنْكَافِ، وَالِاسْتِكْبَارِ، وَالْمُعَانَدَةِ، وَالْفَرْعُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ بِالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ، وَالْخَوْفِ لَهُ وَالرَّجَاءِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِي يَبْعَثُهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ فَإِذَا أَدُّوا الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبُوا الْمَحَارِمَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ فَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمُفْتَرَضُ ⦗٨٠٥⦘. ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ وَلَيْسَتِ النَّوَافِلُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يُبِحْ تَرْكَهُ، فَجَعَلَ جَحْدَهُ كُفْرًا. فَقَالُوا: مَنْ جَحَدَ بِفَرِيضَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَوْ جَحَدَ بِنَافِلَةٍ مِنَ النَّوَافِلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا، وَالْكُفْرُ ضِدُّ الْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمُفْتَرَضُ، وَأَنَّ النَّوَافِلَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْإِيمَانِ لَكَانَ مَنْ جَحَدَ بِهَا كَافِرًا. قَالُوا: وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» فَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُمِيطُوا الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَحْفُرُوا الْآبَارَ وَيَتْرُكُوهَا مَفْتُوحَةً يَقَعُ فِيهَا الضَّعِيفُ وَالْمَكْفُوفُ وَالصَّبِيُّ، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْعُذْرَةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَدُوسُهَا النَّاسُ وَيَتَأَذَّوْنَ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا السِّبَاعَ فِي الطَّرِيقِ يَنْهَشُ النَّاسَ وَيُجَرِّحُهُمْ. قَالُوا: فَإِنَّمَا عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ ⦗٨٠٦⦘. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ التَّنَفُّلُ مِنَ الْإِيمَانِ مَا كَمُلَ إِيمَانُ أَحَدٍ أَبَدًا، وَلَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، فَكَانَ كُلُّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مَنْ لَقِيَهُ لَقِيَهُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَهَذَا شَتْمٌ لِرُسُلِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَإِيجَابُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَلَا لَهُ نِهَايَةٌ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ، وَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الْفَرَائِضَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَتِ النَّوَافِلُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَلَكِنَّهَا بِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَقُرْبَةٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِيمَانُ وَاحِدٌ لَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَأَصْلُهُ مُفْتَرَضٌ، وَفَرْعُهُ مِنْهُ مُفْتَرَضٌ، وَمِنْهُ لَا مُفْتَرَضٌ، فَأَمَّا الْمُفْتَرَضُ فَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِقُلُوبِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مَحْدُودٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُوجِبُ إِلَّا مَعْلُومًا يَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مَنْ أَتَاهُ، وَيَسْتَوْجِبُ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ مَنْ قَصَّرَ عَنْهُ بَعْدَ عِلْمٍ، وَالْبَاقِي مِنَ الْإِيمَانِ هُوَ نَافِلَةٌ لَمْ يَفْتَرِضْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْإِيمَانُ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَمْ يَقُمْ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا عَنْ تَصْدِيقٍ بِاللَّهِ، وَبِمَا وَعَدَ وَتَوَعَّدَ فَكُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ اللَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَدْرُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ بَعَثَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ ⦗٨٠٧⦘، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا عَظُمَ فِي قُلُوبِهِمْ بَذَلُوا لَهُ الْمَجْهُودَ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا، لَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَقُلْ بِهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَدْ نَاقَضَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَةِ عَنِ التَّصْدِيقِ إِيمَانًا فَكُلُّ طَاعَةٍ عَنْ تَصْدِيقٍ إِيمَانٌ. وَإِنَّمَا خَالَفَتْنَا الْمُرْجِئَةُ بِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَطْ، وَقُلْنَا: لَا، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلطَّاعَةِ، ثُمَّ نَاقَضَتْ مِنَّا فِرْقَةٌ، فَقَالُوا: هُوَ اسْمٌ لِبَعْضِ الطَّاعَةِ لَا لِكُلِّ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا بِالْمُفْتَرَضِ يَخْرُجُ تَارِكُهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا فَرْضٌ كَانَتْ إِيمَانًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ إِيمَانًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا طَاعَةٌ لَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا مُفْتَرَضَةٌ فَقَدْ نَاقَضَ مَنْ جَعَلَ طَاعَةً إِيمَانًا، وَطَاعَةً لَا إِيمَانَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ الْإِيمَانَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْتَرَضُ مِنْهُ لَهُ غَايَةٌ لِأَنَّ الَّذِي آمَنَ الْعِبَادُ بِهِ لَا غَايَةَ عِنْدَهُمْ فِي الْكَمَالِ وَالْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ، فَلَوْ آمَنُوا بِهِ كَمَا يَحِقُّ لَهُ لَعَرَفُوهُ كَمَا يَحِقُّ لَهُ، وَلَوْ عَرَفُوهُ كَمَا يَحِقُّ لَهُ لَسَاوَوْهُ بِالْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُسَاوِيهِ مَا يَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُسَاوُوهُ بِالْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ لَيْسَتْ لَهَا غَايَةٌ. فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَصْلُ ⦗٨٠٨⦘ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ مِنْ رَأْفَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ لَهُمُ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَا يُجْهِدُهُمْ وَلَا يَسْتَفْرِغُ طَاقَتَهُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَوِ افْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ لَكَانَ إِيمَانًا مُفْتَرَضًا، وَلَوْ تَقَطَّعَ عِبَادُهُ مَا بَلَغُوا غَايَةَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ سَلْمَانَ لِحُجْرٍ: «لَوْ تَقَطَّعْتَ أَعْضَاءً مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ» ، وَصَدَقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَعْرُوفِ غَايَةٌ عِنْدَ الْعَارِفِينَ فَيَكُونُ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ غَايَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>