يعني: أن رحمته لهم ليست على قدر أعمالهم؛ إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديّته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها؛ فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيبًا لحقه وهو غير ظالم لهم فيه، ولا سيما فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم؛ فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداء حقه الذي ينبغي له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالمًا لهم.
فإن قيل: فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه ممَّا ينبغي له مقدورًا لهم، فكيف يحسن العذاب عليه؟.
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ المقدور للعبد لا يأتي به كله، بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوانٍ، وأيضًا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها، من كمال المراقبة والإِجلال والتعظيم والنصيحة التامَّة لله فيها، بحيث يبذل مقدوره كله في تحسينها وتكميلها ظاهرًا وباطنًا، فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل.
ولهذا سأل الصديقُ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء يدعو به في صلاته، قال له:"قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمتُ نَفْسي ظُلمًا كثيرًا ولا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنت؛ فاغْفِر لي مَغْفِرَةً مِن عِنْدِكَ وارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغفورُ الرحيم"(١)، فأخبر عن ظلمه لنفسه، مؤكدًا له "بأنَّ" المقتضيةِ ثبوتَ الخبر وتحقُّقَه، ثُمَّ أكده بالمصدر النافي للتجوُّز والاستعارة، ثُمَّ وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره، ثُمَّ قال:"فاغفر لي مغفرة من عندك" أي: لا ينالها عملي ولا
(١) أخرجه البخاري (٢/ ٣١٧)، ومسلم (٤/ ٢٠٧٨) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.