في هذه الآيات نشهد وندرك موقف المنكرين لوجود الله ... وهي تُنبِّهُهُم إلى ما في نظام السموات والأرض من اتساق وإحكام، وتطالبهم بأن يُفسّروا هذا النظام المحكم، بحسب قوانين العقل، الذي يقضي بأنّ الشيء الحادِث والواقِع والكائن والموجود، على نحو معيّن، لابدّ أن تكون له علّة كافية، وأن بقاء هذا النظام المحكم على ما هو عليه منذ وجوده، يؤكّد أيضاً إلى جانب العلّة الكافية لإيجادِهِ، علّةً أخرى مصاحبة متلازمة وقائمة مع العلّة الكافية، وهي علّةُ الحفظ والرعاية، وهي التي تؤكّد نفس علة الإيجاد والخَلق معاً وجميعاً ...
ولننظر أيضاً بوعي إلى هذه الآية الكريمة: ?ألم تَرَوا أنّ الله سَخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأَسبغَ عليكم نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنةً ومِن الناس مَن يُجادل في الله بغير علم ولا هُدىً ولا كتابٍ منير? (الآية ٢٠، لُقمان) هذه الآية تنبّه إلى القوانين الطبيعية والكونية السائدة، التي يخضع لها نظامُ العالم كله، وإلى أن هذه القوانين في مَجراها، تحقق مصالح الإنسان وعمران الحياة، وتشيرُ إلى أن الجاحدين بوجود الله، لا يستندون مطلقاً فيما يزعمون، إلى أي سَنَدٍ مِن علم بالأمر، أو منهجٍ راشد، أو حجة علمية محقّقة مدوّنة متداولة.
هذه الآيات وأمثالها كثير في الكتاب الحكيم، تبيّن لنا بأفصح لسان وأرفع بيان، أن نقطة البداية لإثبات وجود الله هي النظر الواعي المستنير في كتاب الكون الكبير، كما أنها نقطة البداية أيضاً، للرد على الجاحدين.
والذي لا مراء فيه، أن القرآن قد انفرد بين الكتب المنزّلة، على صورتها التي وصلت إلينا بهذه الطريقة، من المعرفة بالله وجعل مسألة إثبات وجود الله، مسألةَ بحثٍ علمي، في ضوء العقل والحسّ. ويُؤخذ من حُشود الآيات الكثيرة، في القرآن الداعية إلى النظر العقلي، أن الإيمان بالله ثمرة العِلم، وَأن الجحود بوجوده سببُهُ الجهل.