للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إن هدف أي نص علمي أو أدبي هو: لفت نظر المتلقي إلى حقيقة معينة من جانب، ولفت نظره إلى ما يواكبها من حقائق عامة مكملة لها من جانب آخر. فمثلا لو وقفنا عند سورة الكهف، لواجهنا حقيقة معينة تقول {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (١) ، أو حقيقة تقول ان الدنيا - وليس المال والبنون فحسب - هي زينة {انا جلعنا ما على الأرض زينة لها} (٢) ، وإن الزينة مآلها إلى الزوال ... الخ. هذه الحقائق هي حقائق جزئية سوف يفيد القارىء منها دون أدنى شك. إلاّ أن مجرد معرفتنا بأن الحياة هي زينة لا تحقق الأثر المطلوب، إلاّ إذا ربطناها بحقائق مكملة لها، كما لو قدمنا للقارىء نماذج تطبيقية لمن يتعامل مع زينة الحياة الدنيا إيجابياً أو سلبياً، وهذا ما توفرت عليه السورة الكريمة حينما قدمت لنا نماذج إيجابية مثل أصحاب الكهف (٣) ، الذين نبذوا زينة الحياة الدنيا واتجهوا إلى الكهف، أو حينما قدمت لنا نماذج سلبية مثل صاحب الجنتين (٤) ، حيث تشبث بزينة الحياة الدنيا. لكن مجرد تقديم نماذج إيجابية أو سلبية لا يحقق أثره المطلوب، بل لابد من لفت نظر القارىء إلى المصائر الدنيوية والأخروية التي تترتب على نبذ زينة الحياة الدنيا أو عدم النبذ. وهذا ما توفرت عليه السورة الكريمة حينما أوضحت بأن صاحب الجنتين مثلا قد أبيدت مزرعتاه. فإذا تذكرنا أن السورة الكريمة ذكرت في مقدمتها بأن الله تعالى قد جعل زينة الحياة صعيداً جزراً (٥) ، حينئذٍ عندما يربط القارىء بين هذه المقدمة وبين النتيجة التي لحظها بالنسبة إلى إبادة المزرعتين المذكورتين، تزداد قناعته بأن زينة الحياة الدنيا مصيرها إلى الزوال ... لكن لا تزال فكرة {زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لم تستكمل بعد، فالسورة لا تريد أن تقول لنا بأن زينة الحياة الدنيا لا قيمة لها فحسب، بل تريد أيضاً أن تدلنا على كيفية التعامل مع هذه الزينة حتى نفيد منها في تعديل سلوكنا. ولذلك نجدها تقدم لنا نموذجين متضادين: أحدهما صاحب المزرعتين الذي بهرته زينة الحياة الدنيا وهو لا يملك غير مزرعتين. والآخر (ذو القرنين) الذي تملك مشرق الأرض ومغربها دون أن تبهره زينة الحياة الدنيا.

الاول - وهو صاحب المزرعتين - وصل به الامر إلى أن ينكر قيام الساعة، بينما الآخر هتف قائلا {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} (٦) ، إذن: القارىء عندما يقرأ السورة بأكملها سوف يحتفظ ذهنه بمفهوم عن زينة الحياة الدنيا، وبكيفية التعامل مع هذه الزينة حيث ينبذها حتى لو كانت الزينة قد اقترنت بمواقع اجتماعية كبيرة، مثل أصحاب الكهف الذين كانوا يحتلون مناصب كبيرة في الدولة ولكنهم تركوا ذلك واتجهوا إلى الكف، وحيث لم تؤثر على تعامله مثل ذي القرنين الذي لم تحتجزه زينة الحياة - وقد سيطر على الأرض كلها - عن التعامل الايجابي مع الله تعالى.


(١) الكهف: ٤٦.
(٢) الكهف: ٧.
(٣) راجع الكهف الآية (٩) وما بعدها.
(٤) راجع الكهف الآية (٣٢) وما بعدها.
(٥) الكهف: (٨) .
(٦) الكهف: ٩٨.

<<  <   >  >>