للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إن هذه الافكار التي انتشرت في السورة الكريمة لم تجيء عقوبة بل رسمها النص وفق تخطيط هندسي خاص يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الجهاز الادراكي للقارىء وكيفية التأثير عليه. فمن الحقائق المعرفة في علم نفس الادراك أننا نستجيب للأشياء من خلال (الكل) وليس (الجزء) فحسب، كما أننا نخضع لقانون (التداعي الذهني) الذي ينتقل من الشيء إلى آخر امّا من خلال (التشابه) أو (التضاد) ، فضلا عن أننا حينما نستجيب للأشياء من خلال (التداعي) ، (والكل) ، إنما تترك هذه الاستجابة (انطباعا) عاماً هو: أن كل واحد منا حينما ينتهي من قراءة السورة الكريمة (أو القصة أو المسرحية أو القصيدة مثلا) . ويتحسس بوجود (انطباع) عام، وإن كان غير محدد الملامح، بحيث يترك تأثيره على القاريء. ولذلك، فإن النصوص الأدبية التي تتميز بالجودة نجدها حريصة على أن تسلك أساليب خاصة للسيطرة على ذهن القاريء بحيث تجعله محتفظاً بالانطباع العام الذي تخلفه قراءة النص، آخذة بنظر الاعتبار كيفية الاستجابة الذهنية الواعية أو غير الواعية للقاريء، أي: مراعاة قوانين الادراك للشيء.

إذن: السورة القرآنية الكريمة، لا تعني مجرد كونها مجموعة من الآيات التي تطرح موضوعاً جزئياً، بل هي تضطلع بمهمة فنية خطيرة لم يعها كثير من الدارسين مع الأسف الشديد. وذلك جميعاً - كما قلنا - شكلاً مسوغاً لدراسة السورة من خلال عمارتها ككل، أي من خلال ارتباط الآيات بعضها مع الآخر.

هذا عن المسوغ الفني لدراسة عمارة السورة القرآنية. ولكن، ما (الخطوط) التي تنظم عمارة السور القرآنية الكريمة؟ أي: ما هو المنهج الذي سلكه الكتاب (دراسات) بالنسبة إلى دراسة النص من حيث (الهيكل) الذي تقوم عليه السورة القرآنية الكريمة؟

إن عمارة أو هيكل السورة القرآنية الكريمة تقوم على ما يصطلح عليه بعبارة: (الوحدة الفنية) : ويقصد بها أن هناك (خطوطاً) متفرقة (تجتمع) في نهاية المطاف عند (نقطة) واحدة أو (محور) واحد تتفرع أو تتلاقى عنده الخطوط، وهي (أي: وحدة النص أو الوحدة الفنية) : تنشطر إلى قسمين:

١ - وحدة الدلالة: أي الافكار التي تتضمنها السورة الكريمة.

٢ - وحدة العناصر: أي العناصر اللفظية الصورية والايقاعية ... الخ.

أما الوحدة الدلالية فتعني أن السورة الكريمة تتضمن مجموعة من الافكار المختلفة التي تصب في النهاية في نهر واحد مثل فكرة {زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} والموقف منها.

وأما وحدة العناصر فتعني أن العناصر التي يتكون النص الادبي منها (كالصور والقصص والايقاع ... الخ) توظف جميعاً من أجل إلقاء إنارة على الفكرة التي يتضمنها النص، كما لاحظنا ذلك بالنسبة إلى قصص أصحاب الكهف وصاحب الجنتين وذي القرنين، حيث وظف العنصر القصصي لإنارة فكرة {زِينَةَ الْحَيَاةِ} .

ويلاحظ، أن كتاب (دراسات) قد تناول هذين النحوين من الوحدة الفنية لسور القرآن الكريم، حيث أن السور الكريمة تخضع للأنماط الآتية من البناء الفني من حيث الأشكال:

١ - البناء الافقي

وهو أن تبدأ السورة بتناول موضوع معين وتنتهي بطرح الموضوع ذاته، مثل سورة (المزمل) التي بدأت بالحديث عن قيام الليل وتحديده {قم الليل إلاّ قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أوزد} (١) ، ثم قطعت رحلة في موضوعات مختلفة ترتبط بنمط خاص من العلاقات البنائية التي سنعرض لها فيما بعد، ولكنها ختمت بنفس الموضوع {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} (٢) .

٢ - البناء العمودي أو الطولي

وهو أن تبدأ السورة بتناول موضوع معين، ثم تواصل معالجته متسلسلاً إلى نهايته. مثل سورة (نوح) التي بدأت بالحديث عن إنذار لقومه {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (٣) ، ثم قطعت رحلة في عرض الإنذار ومواجهته، حتى ختمت بحادثة الطوفان {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (٤) .

٣ - البناء المقطعي


(١) المزمل: ٢، ٣، ٤.
(٢) المزمل: ٢٠.
(٣) نوح: ٢.
(٤) نوح: ٢٥.

<<  <   >  >>