{المجيد} فيها قراءتان (المجيدِ) و (المجيدُ) فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد. {فعال لما يريد} هذا وصف لله تعالى بأنه الفعال لما يريد فكل ما أراده سبحانه فهو يفعله، ولا يمنعه من فعله مانع؛ لأن له ملك السموات والأرض، ولا يمنعه أحد من أن يفعل في ملكه ما يشاء؛ وهذا كقوله تعالى:) وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء) (ابراهيم: من الآية٢٧) فالخلق كلهم مهما كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاءونه.
بل قد يريدون الشيء إرادة جازمة، ولكن إذا لم يرد الله أن يقع منهم ذلك الشيء صرفهم الله عن فعله، ومنعهم منه، وحال بينهم وبين تنفيذه، أما الرب تبارك وتعالى فإنه فعال لما يريد، فإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، ففي هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله إرادة كاملة تامة في خلقه وفيما يتعلق بأفعال الخلق، فلا يكون فعل من الناس إلا بإرادة الله، كما قال سبحانه:) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير ٢٨-٢٩) . فبين الله سبحانه في هذه الآية أن مشيئة العباد مرتبطة بمشيته هو سبحانه، كما قال:) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: من الآية٢٥٣) فإرادة الله شاملة لما يكون من فعله، ولما يكون من فعل العباد وأضرب لكم مثلاً بذلك: فأنا لو تكلمت بكلامي هذا أو بغيره أو ما سبقه من الكلام، فكل كلامي كائن بإرادة الله، ولو شاء الله ألا أتكلم ما تكلمت ولعجزت عن الكلام وإذا شاء ان اتكلم تكلمت فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلم. ولهذا قال سبحانه وتعال:) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج: ١٦) ، ثم قال تعالى:) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) (البروج: ١٧)
والخطاب هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصح أن يتوجه إليه بالخطاب، والاستفهام للتنبيه. لأن الشيء إذا جاء بالاستفهام انتبه له الإنسان أكثر (الجنود) جمع جند وهو هنا مبهم لكنه فسره بقوله:) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (البروج: ١٨) يعني هل أتاك خبرهم،؟ والجواب نعم، أتانا خبرهم فقد قص الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون ونبا ثمود ما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فقصة فرعون ذكرها الله تعالى في آيات كثيرة وفي سور متعددة كمقدمة بين يدي سلف موسى عليه السلام وكما هو معروف أن موسى مبعوث لبني اسرائيل، وقص الله سبحانه على رسول الله صلى الله عيله وسلم من نبأ موسى عليه السلام مالم يقصه من نبأ غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يكون مهاجره إلى المدينة التي بها ثلاث قبائل من اليهود، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من نبأهم الشيء الكثير من أجل أن يكون على استعداد لمناظرتهم ومجادلتهم بالحق حتى لا يخفى عليه من أمرهم شيء..
وفرعون ملك مصر، وهل هو علم شخص يسمى باسم فرعون أم وصف لكل من ملك مصر وهو كافر؟ من العلماء من قال: إنه علم شخص أي أنه الذي أرسل إليه موسى عليه السلام هو فرعون وهذا اسمه، ومنهم من قال: أنه علم وصف لكل من ملك مصر كافراً، كما يقال: كسرى لكل من ملك الفرس، وهرقل لكل من ملك الروم، والنجاشي لكل من ملك الحبشة، وما أشبه ذلك..
وفرعون هذا كان جباراً عنيداً متكبراً يدعي أنه الرب كما قال:) أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: من الآية٢٤) وأدعى أيضاً الألوهية حينما قال:) مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية٣٨) وكان يستهزئ بموسى عليه السلام وبما جاء به من الآيات ويتحداه، ويقول له صراحةً وجهاً لوجه:) إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً) (الاسراء: من الآية١٠١) ويفتخر على موسى وعلى قومه فيقول:) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ *فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (الزخرف: ٥١- ٥٣)
فماذا كانت النتيجة؟ أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السحره، فإن السحرة لما جمعوا كل من عندهم من السحر، وجاءوا لمقابلة موسى عليه السلام حيث إن موسى عليه السلام أتى بآية تشبه السحر، ولكنها ليست بسحر، بل آية من آيات الله عز وجل، وهي أن يضع العصى التي معه على الأرض فتنقلب حية تسعى، وجمع السحرة كلهم في مكان حدد) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً) (طه: ٥٨) يعني مكاناً مستوياً منبسطاً حتى يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر وأعمال السحرة. فقال لهم:) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً) (طه: ٥٩) ويوم الزينة هو يوم عيدهم، وهو يوم تكثر فيه الجموع لتهنئة بعضهم بعضاً، واجتمعوا في الموعد المحدد والمكان المعين، وحشر الناس ضحى في رابعة النهار ن وألقى السحرة ما بأيديهم من الحبال والعصى، وخيل إلى الحاضرين من سحرهم أنها تسعى، فأوجس في نفسه خيفة موسى، لأنه شاهد أمراً عظيماً وكيداً كبيراً، فأوحى الله عز وجل إليه أن يلقي عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، وحينئذٍ علم السحرة أن موسى صادق وليس بساحر، لأنه لو كان ساحراً ما استطاع أن يغلبهم بسحره، فآمن السحرة بموسى عليه السلام، وكفروا بفرعون الطاغية، وقالوا:) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: ٤٧) ووقفوا في وجه فرعون وتحدوه وانقلبوا عليه، وفي النهاية أغرق الله فرعون في الماء الذي كان يفتخر به بالأمس.
أما ثمود: فإن الله أعطاهم قدرة وقوة حتى كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ويتخذوا من القصور سهولاً، وعندما كذبوا رسولهم صالح عليه السلام أهلكهم الله برجفة وصيحة، فهلكوا عن بكرة أبيهم، فأصبحوا فب ديارهم جاثمين. وكان من نبأ فرعون وثمود فائدتان:
الأولى: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتقويته، وأن الذي نصر رسله من قبل سوف يؤيده وينصره ويعززه، وهذا لا شك أنه يقوي العزيمة، ويشحذ الهمم في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالاته.
والفائدة الثانية: تهديد ووعيد شديد لقريش الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفوا له بالمرصاد، وأنهم ليسوا أشد قوة من فرعون وثمود، ومع ذلك أصابهم الدمار والهلاك ووقع عليهم كلمة العذاب..
قال سبحانه:) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) (البروج: ١٩)
اي إن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيب، وكأنهم منغمسون في التكذيب، والتكذيب محيط بهم من كل جانب وهذا أبلغ من قوله:) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) (الانشقاق: ٢٢) في هذا الموضع وقد تكون (يكذبون) أبلغ في موضع آخر غير هذا الموضع لأن القرآن قد يأتي بالكلمتين المختلفتين في موضعين وتكون كل واحدة منهما في موضعها أبلغ من الآخرى، والذين كفروا يشمل كل من كفر بالله ورسوله سواء كان من المشركين أو من اليهود أو من النصارى، أو غيرهم، وذلك لأن اليهود والنصارى الآن وبعد بعثة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا على دين مرضي عند الله ولا تنفعهم أديانهم لأنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إن لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، فمثلاً من لم يؤمن بنوح أنه رسول ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لغيره من الرسل والدليل على ذلك قوله:) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: ١٠٥) فبين الله تعالى ان قوم نوح كذبوا جملة الرسل مع أنهم لم يدركوا إلا رسولهم وهو نوح عليه السلام، وكذلك الذي كذب محمداً صلى الله عليه وسلم هو مكذب لغيره من رسل الله وأنبيائه، فإذا ادعت اليهود أنهم على دين وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى نقول لهم: أنتم كافرون بموسى عليه السلام كافرون بالتوراة، وإذا ادعت النصارى الذين يسمون أنفسهم اليوم (بالمسيحيين) أنهم مؤمنون