للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأَنَّ قَوْلَهُ: "مَا إِنْ يَمَسُّ الأَرْضَ إِلَّا مَنْكِبٌ مِنْهُ وَحَرْفُ السَّاقِ" يُفيدُ أَنَّهُ طَاءٍ، فَأَنَابَهُ لِذَلِكَ مَنَابَ الفِعْلِ لَوْ ذَكَرَهُ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: طُوِيَ طَيَّ المِحْمَلِ، وَلِهَذَا نَظَائِرٌ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ.

فَكَذَلِكَ حَمَلُوا بَعْضَ هَذِهِ الحُرُوفِ عَلَى بَعْضٍ لِتَسَاوِي المَعَانِي وَتَدَاخُلِهَا. فَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ (١) وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: "رَفَثَ إِلَى الْمَرْأَةِ" إِنَّمَا تَقُولُ: رَفَثَ بِهَا أَوْ رَفَثَ مَعَهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّفْثُ بِمَعْنَى الإِفْضَاءِ وَكَانَ الإِفْضَاءُ يَتَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِكَ: أَفْضَى إِلَى الشَّيْءِ، أَجْرَى الرَّفَثَ مُجْرَاهُ لَفْظًا لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ مَعْنِّى. وَكَذَلِكَ قَوْلُ القُحَيْفِ العُقَيْلِيِّ (٢):

إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ

إِنَّمَا عَدَّى فِيهِ "رَضِيَ" بـ "عَلَى"، لأنَّ الرِّضَا بِمَعْنَى الإِقْبَالِ. وَقَوْلُكَ: أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوُدِّي بِمَعْنَى رَضِيتُ عَنْهُ. وَكَانَ الكِسَائِيُّ يَقُولُ: حَمَلَهُ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ: سَخِطَتْ، لأَنَّ العَرَبَ قَدْ تَحْمِلُ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ، كَمَا تَحْمِلُهُ عَلَى نَظِيرهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الآخَرِ:

إِذَا مَا امْرُؤٌ وَلَّى عَلَيَّ بِوُدِّهِ

إِنَّمَا عَدَّى فِيهِ "وَلَّى" بـ "عَلَى"، وَكَانَ القِيَاسُ أَنْ يُعَدِّيَهَا بـ "عَنْ"، لأَنَّهُ إِذَا وَلَّى عَنْهُ بِوُدِّهِ فَقَدْ ظَنَّ عَلَيْهِ بِهِ وَبَخِلَ، فَأَجْرَى التَّوَلِيَ بِالوُدِّ مُجْرَى الضَّنَانَةَ وَالْبُخْل وَمَجْرَى السُّخْطِ، لأَنَّ تَوْلِيَتَهُ عَنْهُ بِوُدِّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ سُخْطٍ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:

بَطِل كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ


(١) سورة البقرة (٢): الآية ١٨٧.
(٢) هو أبو الصباح القحيف بن سليم العقيلي، شاعر كوفي لحق الدولة العباسية، له قصيدة قالها في الفتنة عند قتل الوليد بن يزيد. ترجمته في: طبقات ابن سلام: ٢/ ٧٧٠؛ معجم الشعراء: ٢١١؛ الأغاني: ٢٣/ ٢٤٣ - ٢٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>