للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإلى جانب تبحّرهم في العلم فقد وصفوا بالورع والزهد والفضل والتقوى وكثرة الخشية وغزارة الدمعة والوقار، والمروءة وكثرة الحياء .... وهذه صفات لابدّ أن تترك الأثر البالغ في تكوين الجذامي وثقافته، فقد أخذ عنهم العلم والصفات الأخلاقية من ورع وتقوى وجلال وكمال معًا، وهكذا نجد في ترجمته في أول صفحة من "الانتخاب": "مما عني بتأليفه الشيخ الفقيه النحوي اللغوي الماهر" (١). وفي نسخة من "شروح سقط الزند" ما نصه: "نقلت هذا الكتاب من أصل الفقيه الأجلّ، الأستاذ الأعرف الأكمل أبي جعفر أحمد بن داود الجذامي" (٢).

وهذه الصفات لم تكن تطلق جزافًا، بل كانت تلخص حالًا عظيمة وجليلة في ألفاظ قليلة تغني عن الإسهاب في الحديث، والمقصود منها الإكبار والإجلال، قال المقري: "وصفة الفقيه عندهم جليلة، حتى أن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه؛ لأنها عندهم في نهاية من علوّ الطبقة" (٣).

وقد انعكست هذه المعرفة والاطلاع على ما ألّفه، حيث تظهر ثقافته الواسعة على الكثير من المؤلفات في مختلف الفروع من نحو ولغة وأدب وتاريخ وجغرافية وحديث وقرآن وحكمة وفلسفة وفقه وفلك، وتصوُّف وعلم الكلام، إذ نعثر في شرحه على كتب في هذه المجالات اعتمدها ونقل منها، وإن اطلاعه على هذا الكمّ الهائل من المصادر يدل على أنه قد أمضى وقتًا ليس بالهين في دراستها، وقد جمع منها ما يتصل بموضوع "أدب الكتاب" من مختلف العلوم، بحيث ألمّ بشتات ما يتطلّبه الشرح، وبهذا جاء الشرح زاخرًا بالمعلومات حتى فاق بها الكتاب المشروح.

لقد أتاح كتاب "الانتخاب" إمكانية التعرُّف على ثقافة الجذامي الموسوعية، ونلمس ذلك جليًا في أنه جارى جميع الموضوعات التي طرقها


(١) انظر: الانتخاب: ٣٠.
(٢) شروط سقط الزند: خ ١٦٤، ص: ٢٤٢.
(٣) نفح الطيب: ١/ ٢٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>