للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوَلَمْ تَقْرَأْ كِتَابَ اللهِ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: ٤٤]؟ وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، كَمَا مَثَّلَ جِبْرِيلَ - عليه السلام - مَعَ عِظَمِ صُورَتِهِ وَجَلَالَةِ خَلْقِهِ فِي عَيْنِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صُورَةَ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ، وَكَمَا مَثَّلَهُ لِمَرْيَم بَشَرًا سَوِيًّا، وَهُوَ مَلَكٌ كَرِيمٌ فِي صُورَةِ المَلَائِكَةِ، وَكَمَا شَبَّهَ فِي أَعْيُنِ اليَهُودِ أَنْ قَالُوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} [النساء: ١٥٧] فَقَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: ١٥٧]. (١)


(١) علق شيخ الإسلام ابن تيمية على مسألة إتيان الله - جل جلاله - يوم القيامة في صورة بعد صورة بكلام طويل يرد فيه على المصنف فآثرت أن أنقله بنصه لأهميته، فقال في بيان تلبيس الجهمية (٧/ ١٣٤)، ما نصه: «وأقرب ما يكون عليه إتيان الله في صورة بعد صورة وإن كان تأويلاً باطلاً أيضًا ما ذكره بعض أهل الحديث مثل أبي عاصم النبيل وعثمان بن سعيد الدارمي فإنه يروى عن أبي عاصم النبيل أنه كان يقول: (ذلك تغير يقع في عيون الرائين كنحو ما يُخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة) وقال عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي» فنقل كلام المصنف في هذه المسألة كله ثم قال: «وهذا أيضًا باطل من وجوه.

أحدها: أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي لفظ في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهذا يفسر قوله في حديث أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون هي التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا وليس الأمر كذلك لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا ولفظ الرؤية صريح في ذلك وقد بينا أنه في غير حديث مما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة.
الوجه الثاني: أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة ولم يروه في الدنيا في صورة فإن ما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يوجب لهم صورة يعرفونها ولهذا جاء في حديث آخر أنه ليس كمثله شيء، فلو كانوا أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك فعلم أنهم لم يطيقوا وصف الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وقد قال النبي في سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها، حتى لا يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها، فالله أعظم من أن يستطيع= ... = أحد أن ينعت صورته وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم، ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر، ومع هذا فقد قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فالخالق أولى أن يكونوا لا يطيقون معرفة صفاته كلها.
الوجه الثالث: أن في حديث أبي سعيد فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقوله لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم مخالفة لهذا النص.
الوجه الرابع: أن في حديث ابن مسعود وأبي هريرة من طريق العلاء أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون وفي لفظ أشباه ما كانوا يعبدون ثم قال يبقى محمد وأمته فيتمثل لهم الرَّب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول: مالكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فقد أخبر أن الله تعالى هو الذي تمثل لهم ولم يقل مُثِّل لهم كما قال في معبودات المشركين وأهل الكتاب.
الوجه الخامس: أن في عدة أحاديث؛ كحديث أبي سعيد وابن مسعود قال هل بينكم وبينه علامة فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجدون له وهذا يبين أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف وكذلك في حديث جابر قال فيتجلى لنا يضحك ومعلوم أنه وإن وصف في الدنيا بالضحك فذاك لا يعرف صورته بغير المعاينة.
الوجه السادس: أن تمثيله ذلك بقوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} ... [الأنفال: ٤٤] وبقوله: {شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: ١٥٧] لا يناسب تشبيهه بمجيء جبريل في صورة دحية والبشر وذلك أن اليهود غلطوا في الذي رأوه فلم يكن هو المسيح ولكن ألقى شبهه عليه والذي رأته مريم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل نفسه ولكن في صورة آدمي، فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم يره هو وإنما ألقي شبهه على غيره، وأما التقليل والتكثير في أعينهم بالمقدار ليس هو في نفس المرئي ولكن هو صفة المرئي.
الوجه السابع: أن هذا المعنى إذا قصد كان مقيدًا بالرائي لا بالمرئي مثل قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} ... [الأنفال: ٤٤] فقيد ذلك بأعين الرائين يقال كان هذا في عين فلان رجلاً فظهر امرأة وكان كبيرًا فظهر صغيرًا ونحو ذلك لا يقال جاء فلان في صورة كذا ثم تحول في صورة كذا ويكون التصوير في عين الرائي فقط هذا لا يُقال في مثل هذا أصلا».

<<  <   >  >>