للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

التَّقْلِيد. وَأما إِذا لم يُقَلّد وَلَكِن توقف وَلم يعْتَقد مِنْهَا شَيْئا مَعَ تمكنه من إِدْرَاك ذَلِك فَهُوَ مَحل نظر، ويترجح أَيْضا أَنه غير مأثوم لعدم قيام الدَّلِيل على وجوب ذَلِك، بِخِلَاف مَا إِذا اعْتقد غير الْحق فَإِن ذَلِك يكون كتقصيره والإقدام بِغَيْر دَلِيل خطأ بِخِلَاف التَّوَقُّف فِيمَا لَا يجب كَمَا يَأْتِي فِي الْفُرُوع. أَقُول: مَنْ أقدَّم على فعل بغيرِ عِلْم بِحكمِهِ يكون مأثوماً، ومَنْ توقَّف عَنهُ لَا يكون مأثوماً، ثمَّ قَالَ بعد كَلَام طَوِيل أَيْضا: كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَن إرْسَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْجِنّ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ، وَمَا قَالَه الإِمَام صَحِيح إذْ هُوَ الْقدْوَة فِي ذَلِك لأَنا نفهم قطعا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر الْمُفِيد بِالضَّرُورَةِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادّعى الرسَالَة مُطلقًا وَلم يقيدها بقبيلة وَلَا طَائِفَة وَلَا إنس وَلَا جن فَهِيَ عامَّة. ثمَّ الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من الشَّرْع قِسْمَانِ: أَحدهمَا: مَا يعرفهُ الْخَاصَّة والعامة. وَالثَّانِي: مَا قد يخفى على بعض الْعَوام، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلنَا إِنَّه مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ لِأَن المُرَاد مَنْ مارس الشَّرِيعَة عَلِم مِنْهَا مَا يحصل بِهِ الْعلم الضروريّ بذلك، وَهَذَا يحصل لبَعض النَّاس دون بعض بِحَسب الممارسة وَكَثْرَتهَا أَو قلتهَا أَو عدمهَا. فالقسم الأول من أنكرهُ من الْعَوام والخواص فقد كفر، لِأَنَّهُ كالمكذِّب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَبره، ومِنْ هَذَا الْقسم إِنْكَار وجوب الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَنَحْوهَا وَتَخْصِيص رسَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَعْض الْإِنْس فَمن قَالَ ذَلِك فَلَا شكّ فِي كُفْره، وَإِن اعْترف بِأَنَّهُ رَسُول الله لِأَن عُمُوم رسَالَته إِلَى جَمِيع الْإِنْس مِمَّا يُعلمهُ الْخَواص والعوام بِالضَّرُورَةِ من الدّين. وَالْقسم الثَّانِي من أنكرهُ من الْعَوام الَّذين لم يحصل عِنْدهم من ممارسة الشَّرْع مَا يحصل بِهِ الْعلم الضَّرُورِيّ لم يكفر وَإِن كَانَت كَثْرَة الممارسة توجب للْعُلَمَاء الْعلم الضَّرُورِيّ بِهِ، وَمن هَذَا الْقسم عُمُوم رسَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْجِنّ فَإنَّا نعلم بِالضَّرُورَةِ ذَلِك لِكَثْرَة ممارستنا لأدلة الْكتاب وَالسّنة وأخبار الْأُمَم، وَأما الْعَاميّ الَّذِي لم يحصل لَهُ ذَلِك الْعلم إِذا أنكر ذَلِك فَإِن قيد الشَّهَادَة بالرسالة إِلَى الْإِنْس خَاصَّة خشيت عَلَيْهِ الْكفْر كَمَا قَدمته، وَإِن أطلق الشَّهَادَة بِأَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلم يتَنَبَّه إِلَى أَن إِنْكَاره لعُمُوم الرسَالَة للجن يُخَالف ذَلِك فَلَا أرى الحكم بِكُفْرِهِ، ولكنْ يُؤدَّب على كَلَامه فِي الدّين وَالْجهل وَيُؤمر بِأَن يتَعَلَّم الْحق فِي ذَلِك لتزول عَنهُ الشُّبْهَة الَّتِي أوجبتْ لَهُ الْإِنْكَار؛ وَإِذا لم يحصل مِنْهُ إِنْكَار وَلَا تكلم فِي ذَلِك وَلَا خطر بِبَالِهِ شَيْء مِنْهُ فَلَا لوم عَلَيْهِ وَلَا يُؤمر بتَعَلُّم ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْض عين، وإنْ خَطَر بِبَالِهِ ذَلِك لزمَه السُّؤَال واعتقاد الْحق أَو صَرَف نَفْسَه عَن اعْتِقَاد الْبَاطِل وَيشْهد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرسالة؛ فَعلم أَن العاميّ لَا يُكَلف بِالْعلمِ بذلك قطعا وَلَا ظنا، وَأَن الْعَالم الْمَطْلُوب مِنْهُ الْعلم، وَأَن هَذِه الْمَسْأَلَة وَإِن كَانَت قَطْعِيَّة لَكِن فِي نَفسهَا إذْ الْقطع فِيهَا غير لَازم للعامي فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَسَائِر الْفُرُوع فيكتفي بهَا بِالْإِجْمَاع عِنْده على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسل للثقلين متواتر مَقْطُوع بِهِ كَسَائِر الْفُرُوع الثَّابِتَة بالتواتر كَمَا تضمنه كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ انْتهى كَلَام السُّبْكِيّ رَحمَه الله وشكر سَعْيه، وَهُوَ مُوَافق لكثير مِمَّا قَدمته ومشتمل على فَوَائِد يَنْبَغِي إمعان النّظر فِيهَا ومزيد تأملها لخفائها على أَكثر المحصِّلين واعتقادهم فِيهَا خلاف الصَّوَاب.

٢١١ - وَسُئِلَ رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ: فِي عقائد الْحَنَابِلَة مَا لَا يخفى على شرِيف علمكُم، فَهَل عقيدة الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ كعقائدهم؟ فَأجَاب بقوله: عقيدة إِمَام السّنة أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وأرضاه وَجعل جنان المعارف متقلَّبه ومأواه وأفاض علينا وَعَلِيهِ من سوابغ إمتنانه وبوأه الفردوس الْأَعْلَى من جنانه، مُوَافقَة لعقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة من الْمُبَالغَة التَّامَّة فِي تَنْزِيه الله تَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ والجاحدون علوا كَبِيرا من الْجِهَة والجسمية وَغَيرهمَا من سَائِر سمات النَّقْص، بل وَعَن كل وَصْف لَيْسَ فِيهِ كَمَال مُطلق، وَمَا اشْتهر بَين جهلة المنسوبين إِلَى هَذَا الإِمَام الْأَعْظَم الْمُجْتَهد من أَنه قَائِل بِشَيْء من الْجِهَة أَو نَحْوهَا فكذب وبُهتان وافتراء عَلَيْهِ، فلعن الله من نسب ذَلِك إِلَيْهِ، أَو رَمَاه بِشَيْء من هَذِه المثالب الَّتِي برَّأه الله مِنْهَا، وَقد بَين الْحَافِظ الْحجَّة الْقدْوَة الإِمَام أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ من أَئِمَّة مذْهبه المبرئِّين من هَذِه الوصمة القبيحة الشنيعة، أنَّ كل مَا نسب إِلَيْهِ من ذَلِك كذب عَلَيْهِ وافتراء وبهتان وَأَن نصوصه صَرِيحَة فِي بطلَان ذَلِك وتنزيه الله تَعَالَى عَنهُ فَاعْلَم ذَلِك فَإِنَّهُ مُهِمّ. وَإِيَّاك أنْ تصغى إِلَى مَا فِي كتب ابْن تَيْمِية وتلميذه ابْن قيم الجوزية وَغَيرهمَا مِمَّن اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله الله على علم وَختم على سَمعه وَقَلبه وَجعل على بَصَره غشاوة فَمن

<<  <   >  >>