بِإِعَادَة مَا مضى فاستكان عِنْد ذَلِك الْأَمِير وَقَالَ: دعوا النَّاس على مذاهبهم، وَالْوَاجِب الِاعْتِرَاف بِفضل أُولَئِكَ الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين فِي السُّؤَال وسابقيهم، وَأَنَّهُمْ من جملَة المرادين بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يحمل هَذَا الْعلم من كُلِّ خَلَفٍ عَدو لَهُ، يَنْفُون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المُبْطِلين وتأويلَ الْجَاهِلين) فَلَا يعْتَقد ضلالتهم إِلَّا أَحمَق جَاهِل أَو مُبْتَدع زائغ عَن الْحق وَلَا يسبهم إِلَّا فَاسق، فَيَنْبَغِي تبصير الْجَاهِل وتأديب الْفَاسِق واستتابة المبتدع، وَإِلَّا فَقَالَ بعض أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة: يضْرب إِلَى أَن يَمُوت كَمَا فعل سيدنَا عمر رَضِي الله عَنهُ بضُبَيْع الْمَشْهُور الْمُتَّهم، وَورد أَنه لما أَكثر ضربه قَالَ لَهُ: إِن كنت تُرِيدُ دوائي فقد بلغ مَوضِع الدَّاء، وَإِن كنت تُرِيدُ قَتْلِي فعجِّل عليّ فخلى سَبيله.
٢١٤ - وَسُئِلَ رَضِي الله عَنهُ، عَمَّا يَقُول بعض الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّه لَا يكمل الدّين إِلَّا بِمَعْرِِفَة أصُول الدّين وتحقيقه وَيتَعَيَّن على كل أحد الِاشْتِغَال بِهِ وتقديمه على تعلم سَائِر الْفُرُوع، وَمن خَالف فِي ذَلِك رُبمَا ضلَّلوه وكفَّروه هَل هُوَ صَحِيح أَو لَا؟ فَأجَاب بقوله: لَيْسَ مَا قَالُوهُ صَحِيحا بِإِطْلَاقِهِ كَمَا شنَّع الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من الْأَئِمَّة على أهل الْكَلَام وبدَّعوهم وضَلَّلوهم بِمَا هُوَ مَبْسُوط فِي غير هَذَا الْمحل، وَمن ثمَّ لم يقل من الْأَئِمَّة الأشعرية بِتِلْكَ الْمقَالة المحكية فِي السُّؤَال وَلَا يتأولها عَلَيْهِم إِلَّا غبيّ جَاهِل، إِذْ لَو كَانَ الْإِسْلَام لَا يتم إِلَّا على القوانين الْعَقْلِيَّة الَّتِي رتبَّها الأصوليون لبينها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للنَّاس وَبَلغهَا إِلَيْهِم كَمَا أَمر فِي قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىاأَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [الْمَائِدَة: ٧٠] الْآيَة، فَلَمَّا تَيَقنا أَنه لم يدع النَّاس لذَلِك وَلَا تكلم بِهِ أحد من الصَّحَابَة بِكَلِمَة وَاحِدَة فَمَا فَوْقهَا من هَذَا النمط من طَرِيق تَوَاتر وَلَا آحَاد من طَرِيق صَحِيح وَلَا سقيم عُلِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عدلوا إِلَى مَا هُوَ أبين للفهم ليستْبقُوا إِلَيْهِ بأوائل الْعقل وَهُوَ مَا أَمر الله بِهِ من الِاعْتِبَار بمخلوقاته فِي غير مَا آيَة، وَلم يمت صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بلغ النَّاس، وَبَين مَا أُنزل إِلَيْهِم وأُمِرَ بتبليغه فِي خطبَته فِي حجَّة الْوَدَاع وَغَيرهَا من مقاماته بِحَضْرَة الْعَامَّة وَقَوله: (هَل بلَّغتْ) وَمَا أَمر بِهِ هُوَ كَمَال الدّين وَتَمَامه بقوله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِ الأٌّزْلَامِ ذَالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الْمَائِدَة: ٣] فَلَا حجَّة فِي إِثْبَات التَّوْحِيد وَمَا يجب لَهُ تَعَالَى أَو يجوز أَو يَسْتَحِيل بِمَا سوى مَا أنزلهُ فِي كِتَابه وَبَينه على لِسَان نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا نبَّه عَلَيْهِ من الِاعْتِبَار فَقَالَ: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ٢١] أَشَارَ إِلَى أَن فِيهَا من آثَار الصَّنْعَة ولطيف الْحِكْمَة مَا يدل على وجود الصَّانِع الْحَكِيم وَأَنه قَادر عَلَيْهِم وَاجِد موجد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١] كَمَا ذكر فِي كِتَابه الْعَزِيز، فَإِذا نظر فِي نَفسه وَمَا ركَّب فِيهَا من الْجَوَاهِر المدركة والجوارح المباشِرة للقبض والبسط والأعضاء المعدّة للأفعال كالأضراس المعدَّة للطحن عِنْد فرَاغ الرَّضَاع وَالْحَاجة للطعام والمعدة لنضج الطَّعَام وإنعامه لمجاري الْأَعْضَاء وَالْعُرُوق، وَغير ذَلِك مِمَّا فِي الْبدن من الْبَدَائِع الَّتِي لَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ، وَلَا يفهم حقائق مَا وضعت لَهُ إِلَّا العارفون، وَقَوله تَعَالَى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: ١٧] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ} } [الْبَقَرَة: ١٦٤] {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} [الْوَاقِعَة: ٥٨] الْآيَات. وَشبه ذَلِك من المجادلة الْوَاضِحَة الَّتِي يُدْرِكهَا كَافَّة الْعُقَلَاء وَعَامة المخاطبين وَهِي أَكثر من أَن تحصى فيتيقن بهَا وجوده ثمَّ يتَيَقَّن وحدانيته وَعلمه وقدرتُهُ بِمَا يُشَاهد من كَثْرَة أَفعاله على الْحِكْمَة وإيرادها وجريها على طرقها، فَمن أتقن هَذَا علم سَائِر صِفَاته تَوْفِيقًا على كِتَابه الْمنزل، وَعلم صِدْق نبيه الْمُرْسل، وَمَا ظهر عَلَيْهِ من المعجزات فالاستدلال بِهَذَا أصح وأوضح فِي التَّوَصُّل إِلَى الْمَقْصُود، وَعَلِيهِ عوَّل سلف الْأمة لِأَنَّهُ نظر عقليِّ بديهي مركَّب على مُقَدمَات من الْعقل وَالْعلم والتوصل إِلَيْهِ بطرِيق الأشاعرة فَهُوَ وَإِن صحَّ إِلَّا أَنه لَا يُؤمن على صَاحبه الْفِتْنَة، وَلِهَذَا تَركهَا السّلف لَا لعجزهم عَنْهَا فهم أعْقل وأفْهم مِمَّن بعدهمْ، وَلم يَأْتِ آخر هَذِه الْأمة بأهدى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أوائلها.
فَيتَعَيَّن على الْوُلَاة منع من يشهر علم الْكَلَام بَين الْعَامَّة لقُصُور أفهامهم عَنهُ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي بهم إِلَى الزيغ والضلال، وَأمر النَّاس بفهم الْأَدِلَّة على مَا نطق بِهِ الْقُرْآن وَنبهَ عَلَيْهِ إذّ هُوَ بَين وَاضح يدْرك ببداهة الْعقل كَمَا مر، ثمَّ يتَعَلَّم أَحْكَام الْعِبَادَات والعقود الَّتِي كلفوها على مَا هُوَ مُبين فِي الْفُرُوع. وَأما من جدَّ فِي الطّلب وَله حَظّ وافر من الْفَهم فَعَلَيهِ أَن يقْرَأ علم الْكَلَام إِذا وجد إِمَامًا يفتح لهُ مُقْفِله ويوضح لَهُ مشْكِله فَيَزْدَاد بقرَاءَته وَالْوُقُوف على حقائقه بَصِيرَة فِي دينه، ويَعْرِف فَسَاد مَذَاهِب الْمُخَالفين والمبتدعة والغالين وردَّ شُبَههم وَيجوز الْكَمَال فِي الْعلم حَتَّى يدْخل تَحت عُمُوم حَدِيث (يحمل هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute