للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ سيد الطَّائِفَة أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد قدس الله سره مَشى رجال بِالْيَقِينِ على المَاء وَمَات بالعطش من هُوَ أفضل مِنْهُم يَقِينا وَقَالَ أَيْضا الْيَقِين ارْتِفَاع الريب فِي مشْهد الْغَيْب وَقَالَ سهل التسترِي حرَام على قلب أَن يشم رَائِحَة الْيَقِين وَفِيه سُكُون إِلَى غير الله وَلَا يشكل عَلَيْك مَا مر من حِكَايَة الْإِطْلَاق فِي التَّفْضِيل بَين الْمُحب والعارف مَعَ أَن الْعَارِف لَا بُد أَن يكون محبا لِأَن المُرَاد من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ التَّفْضِيل بَين غَلَبَة الْمحبَّة وَغَلَبَة الْمعرفَة لِأَن بَعضهم يغلب عَلَيْهِ سكر الْمحبَّة وَشدَّة الهمان والوله بمحبوبه وَبَعْضهمْ يغلب عَلَيْهِ الْمُشَاهدَة وَظُهُور الْأَسْرَار والمعارف وَكَثْرَة التجليات مَعَ اعْتِدَال حَاله فِي الْمحبَّة فِي غَالب الْحَالَات فَيكون أَكثر معارف وَالْأول أَشد وَلها وسكرا وَمن ثمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ الْمحبَّة اسْتِهْلَاك فِي لَذَّة والمعرفة شُهُود فِي حيرة وفناء فِي محنة انْتهى وَاعْلَم أَن الْيَقِين هُوَ نِهَايَة الْمعرفَة ومراتبه ثَلَاثَة علم الْيَقِين وَهُوَ مَا ينشأ عَن النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَعين الْيَقِين وَهُوَ مَا يكون من طَرِيق الْكَشْف والنوال وَحقّ الْيَقِين وَهُوَ مُشَاهدَة الْغَيْب مُشَاهدَة العيان كَمَا يُشَاهد الرَّائِي فَالْأول للأولياء وَالثَّانِي لخواصهم وَالثَّالِث للأنبياء وَحَقِيقَته اخْتصَّ بهَا نَبينَا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - (وَسُئِلَ) رَضِي الله عَنهُ ونفع بِهِ أَيّمَا أفضل عُلَمَاء الْبَاطِن أم عُلَمَاء الظَّاهِر (فَأجَاب) بقوله إِن أردْت بعلماء الْبَاطِن مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ عِنْد أَهله وهم العارفون بِاللَّه الَّذين وفقهم الله لأَفْضَل الْأَعْمَال وحفظهم من سَائِر المخالفات فِي كل الْأَحْوَال ثمَّ كشف لَهُم الغطاء فعبدوه كَأَنَّهُمْ يرونه وَاشْتَغلُوا بمحبته عَمَّا سواهُ وأطلعهم على عجائب ملكه وغرائب حكمه وقربهم من حَضْرَة قدسه وأجلسهم على بِسَاط أنسه وملا قُلُوبهم بِصِفَات جماله وجلاله وَجعلهَا مطالع أنواره ومعادن أسراره وخزائن معارفه وكنوز لطائفه وَأَحْيَا بهم الدّين ونفع بهم المريدين وأغاث بهم العتاد وَأصْلح بهم الْبِلَاد وبعلماء الظَّاهِر الَّذين عرفُوا رسوم الْعُلُوم الكسيبة وعويصات الوقائع الفعلية والقولية وغرائب الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة والنقلية حَتَّى حفظوا سياج الشَّرْع من أَن يلم بِهِ طَارق أَو يخرقه مُبْتَدع مارق فالأولون أفضل وَإِن كَانَ للآخرين فضل عَظِيم بل رُبمَا كَانُوا أفضل من حيثية لَا مُطلقًا وَمَعَ ذَلِك فأفضلية الْأَوَّلين على حَالهَا إِذْ قد يكون فِي الْمَفْضُول مزية بل مزايا هَذَا إِن وجدت فِي هَؤُلَاءِ صفة الْعَدَالَة وَإِلَّا فَلَا مفاضلة إِذْ لَا مُشَاركَة بَينهم وَبَين الْأَوَّلين فِي شَيْء من صِفَات الْكَمَال لِأَن رسوم الْعُلُوم الخالية عَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِي الْحَقِيقَة مقت أَي مقت وَغَضب أَي غضب وَمن ثمَّ جَاءَ فِي الْأَخْبَار الصَّحِيحَة من عِقَاب الْعلمَاء الَّذين لم يعلمُوا بعلمهم مَا يدهش اللب ويحير الْفِكر هَذَا هُوَ الْحق فِي هَذِه المسئلة خلافًا لمن أطلق الْكَلَام فِي تَفْضِيل أحد الشقين وَلم ينح هَذَا التَّفْصِيل الَّذِي أبديته وَلَا يرد على ذَلِك مَا وَقع لمُوسَى مَعَ الْخضر صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم بِنَاء على مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور من الصُّوفِيَّة أَن الْخضر ولي لِأَن مُوسَى أفضل مِنْهُ إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ امتاز على الْخضر بخصوصيات لَا تحصى وَإِنَّمَا غَايَة مَا يتَمَيَّز بِهِ الْخضر أَنه اطلع على جزئيات من عَالم الْغَيْب لم يطلع عَلَيْهَا مُوسَى فتلمذ لَهُ لأَجلهَا وتأديبا من الله لَهُ إِذا سُئِلَ من أعلم النَّاس فَقَالَ أَنا وَلم يرد الْعلم إِلَى الله فَلَيْسَتْ قضيتهما مِمَّا نَحن فِيهِ بِوَجْه خلافًا لليافعي رَحمَه الله حَيْثُ جعلهَا دَلِيلا لتفضيل الْأَوَّلين وَمِمَّا يدل لأفضلية الْأَوَّلين مَا هُوَ مُقَرر أَن الْعلمَاء إِنَّمَا يشرفون على قدر شرف معلومهم وَشرف الْعُلُوم تَابع لشرف غاياتها فعلوم المعارف الْمُتَعَلّقَة بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته أشرف الْعُلُوم وأصحابها أشرف الْعلمَاء ويليها فِي الشّرف علم الْفِقْه لِأَن غَايَته معرفَة أَحْكَام الله وشرعه الَّذِي تعبد بِهِ عباده وَجَمِيع الْعُلُوم وَسِيلَة إِلَى هذَيْن العلمين المشتملين على معرفَة الله وَمَعْرِفَة عِبَادَته لِأَن الْخلق لم يخلقوا إِلَّا لذَلِك {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَالْعِبَادَة تفْتَقر إِلَى الْمعرفَة وَمن فَسرهَا بالمعرفة فَهِيَ مستلزمة لِلْعِبَادَةِ إِذْ من عرف الله عرف وجوب عِبَادَته وطاعته وَمِمَّا يُوضح لَك أَن الْعُلُوم وَسِيلَة لِذَيْنِك العلمين أَنَّهَا وَسِيلَة لمعْرِفَة الْفِقْه الْوَسِيلَة لمعْرِفَة الْعَمَل الْوَسِيلَة للْعَمَل الْوَسِيلَة لطاعة الله وقربه الْوَسِيلَة لمعرفته فَمن اسْتعْمل هَذِه الْوَسَائِل على وَجههَا وصل بهَا إِلَى الْمَقْصُود الْأَعْظَم وَإِلَّا فَهُوَ الخاسر الْجَاهِل وَإِن كَانَ بِصُورَة عَالم وَمِمَّا يدل على أَفضَلِيَّة علم الْمعرفَة على الْفِقْه وَغَيره أُمُور مِنْهَا أَن الْعُلُوم والمعارف الدنية يخْتَص بهَا الْأَوْلِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ والعلوم الظَّاهِرَة ينالها حَتَّى الفسقة والزنادقة وَمن ثمَّ قَالَ السهروردي فِي عوارفه وينبيك عَن شرف علم الصُّوفِيَّة وزهاد الْعلمَاء أَن الْعُلُوم كلهَا لَا يبعد تَحْصِيلهَا مَعَ محبَّة

<<  <   >  >>