عَن ظواهرها بحملها على محامل قريبَة المأخذ مِنْهَا بَيِّنَة تلِيق بهَا من جِهَة الشَّرْع وَالْعقل، ولسان الْعَرَب وتقتضي تَنْزِيه الرب جلّ وَعلا عَمَّا يُوهم ظَاهرهَا، وَقد نَص على هَذَا الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره من حذاق الْمُتَكَلِّمين. وَذهب القَاضِي الباقلاني وَغَيره فِي بَعْضهَا إِلَى أَنَّهَا دَالَّة على صفة زَائِدَة تلِيق بجلاله تَعَالَى من غير تكييف وَلَا تَحْدِيد، وَلكُل فريق تأويلات ومآخذ تلِيق بجلاله تَعَالَى تطول، وَمن أرادها فلينظرها فِي كتب التَّفْسِير ومُشْكِل الْأَحَادِيث كَابْن فورك وَغَيره، مَعَ أَن الْبَارِزِيّ حكى عَن الْقَابِسِيّ أَنه كَانَ يَدْعُو على ابْن فورك من أجل أَنه أَدخل فِي كِتَابه أَحَادِيث مشكلة، وتكلف الْجَواب عَنْهَا مَعَ ضعفها فَكَانَ فِي عدم ذكرهَا غناء عَن ذكرهَا انْتهى. وَلَيْسَ هَذَا الدُّعَاء فِي مَحَله بل هُوَ من بعض التعصب وَكَيف وَابْن فورك إِمَام الْمُسلمين والذابّ عَن حمى حومة الدّين، وَإِنَّمَا تكلّف الْجَواب عَنْهَا مَعَ ضعفها لِأَنَّهُ رُبمَا تشبث بهَا بعض من لَا علم لَهُ بِصَحِيح الْأَحَادِيث من ضعيفها فَطلب الْجَواب عَنْهَا بِفَرْض صِحَّتهَا إِذْ الصِّحَّة والضعف عَن أَئِمَّة الحَدِيث ليسَا من الْأُمُور القطعية بل الظنية، والضعيف يُمكن أَن يكون صَحِيحا فَبِهَذَا الْغَرَض يحْتَاج إِلَى الْجَواب عَنهُ فَمَا فعله ابْن فورك هُوَ الصَّوَاب فجزاه الله عَن الْمُسلمين خيرا. وَالْمذهب الثَّانِي: جَوَاز إِطْلَاق فَوق من غير تكييف وَلَا تحديث نَقله أَبُو الْمَعَالِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَاد عَن الكرامية وَبَعض الحشوية، وَنَقله القَاضِي عِيَاض عَن الْفُقَهَاء والمحدثين وَبَعض الْمُتَكَلِّمين من الأشعرية قَالَ الإِمَام الْبُرْزُليّ الْمَالِكِي: وَأنكر عَلَيْهِ شَيخنَا الإِمَام نَقله عَن بعض الأشعرية إنكاراً شَدِيدا، وَقَالَ: لم يقلهُ أحد مِنْهُم فِيمَا عَلمته واستقريْتُه من كتبهمْ، وسمعته يَقُول القَاضِي ضَعِيف فِي علم الْأُصُول وَيعرف ذَلِك من تأليفه وَكَانَ عَالما بالأحاديث ورجالها وضبطها ولغاتها مقدَّماً فِي ذَلِك فَلَا يلْتَفت لنقله عَن أهل الْأُصُول فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَكَلَامه فِي الشِّفَاء يدل على علمه فِي هَذَا الْفَنّ وَغَيره وتَضَّلُّعه وَلم يَنْقُلهُ فِيهِ عَن بعض الأشعرية وَحَكَاهُ ابْن بزيزة فِي شرح الْإِرْشَاد عَن القلانسي من مَشَايِخ الأشعرية وَعَن البُخَارِيّ وَغَيره، غير أَن هَذَا مُحدث، وَاخْتَارَ هَذَا الْمَذْهَب ابْن عبد البرّ فِي (الاستذكار) وَاشْتَدَّ نَكِير شَيخنَا الْمَذْكُور عَلَيْهِ وَقَالَ: لم تزل فُقَهَاء الْمَذْهَب ينكرونه عَلَيْهِ بِحمْل مَا ورد على ظَاهره ولتدافع مذْهبه فِي نَفسه عِنْد تَحْقِيقه وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن أبي زيد فِي رسَالَته. وَفِي أسئلة الشَّيْخ عز الدّين: مَا تَقول فِي قَول ابْن أبي زيد، وَأَنه فَوق عَرْشه الْمجِيد بِذَاتِهِ، وَأَنه فِي كل مَكَان بِعِلْمِهِ هَل يفهم مِنْهُ القَوْل بالجهة وَهل يكفر معتقدها أم لَا؟ . فَأجَاب الشَّيْخ عز الدّين: بِأَن ظَاهره مَا ذكر من القَوْل بالجهة، لِأَنَّهُ فرق بَين كَونه على الْعَرْش وَكَونه مَعَ خلقه بِعِلْمِهِ، وَالأَصَح أَن مُعْتَقد الْجِهَة لَا يكفر لِأَن عُلَمَاء الْمُسلمين لم يخرجوهم عَن الْإِسْلَام، بل حكمُوا لَهُم بِالْإِرْثِ من الْمُسلمين وبالدفن فِي مَقَابِر الْمُسلمين، وَتَحْرِيم دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وَإِيجَاب الصَّلَاة عَلَيْهِم، وَكَذَا سَائِر أَرْبَاب الْبدع لم يزل النَّاس يجرونَ عَلَيْهِم أَحْكَام الْإِسْلَام وَلَا مبالاة بِمن كفرهم لمراغتمه لما عَلَيْهِ النَّاس انْتهى كَلَام عز الدّين. وَقَالَ بعض من ينْسب إِلَى الطّلب: هَذَا كَلَام كفر وَالْقَائِل بِهِ كَافِر، لِأَن من اعْتقد الْجِهَة فِي حق الله جلّ وَعلا فَهُوَ كَافِر بِالْإِجْمَاع، ومَنْ توقف فِي كفره فَهُوَ كَافِر، فعورض هَذَا الطَّالِب فِي ذَلِك بِمَا وَقع بَين الْأَئِمَّة من الِاخْتِلَاف فِي تَكْفِير أهل الْأَهْوَاء، وَبِمَا قَالَ القَاضِي فِي (الشِّفَاء) وَغَيره من جَرَيَان الْخلاف فِي المشبهة وَغَيرهم، وَبِمَا ذكره ابْن التلمساني فِي عين الْمَسْأَلَة من الْخلاف فَلم يقبل شَيْئا من هَذَا، وَاسْتدلَّ لنقله الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة بالحلولية وَجعلهَا أَنَّهَا هِيَ عين جَوَاب عز الدّين وَأَن الحلولية كفار بِالْإِجْمَاع. وَأجَاب بعض الْمُفْتِينَ عَن كَلَام هَذَا الطَّالِب بِمَا نَصه: الصَّحِيح قَول الشَّيْخ عز الدّين وَلَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة وَالْخلاف فِيهَا على وَجه آخر، وَهُوَ أَن المُشبِّهة هَل عرفُوا أم لَا؟ واحتجاج هَذَا الرجل بِمَسْأَلَة الحلولية على الْمَسْأَلَة من أدل دَلِيل على أَنه لَا يعرف الحلولية وَلَا المشبهة، وَأَن الْإِجْمَاع على تَكْفِير الْقَائِل بالحلول يلْزم مِنْهُ الْإِجْمَاع على تَكْفِير الْقَائِل بالتشبيه كَلَام غير مُحَصل. وَالْحق أَنه يلْزم من صِحَة الْمَلْزُوم صِحَة اللَّازِم وَمن بطلَان اللَّازِم بطلَان الْمَلْزُوم، لَا أَنه يلْزم من الْإِجْمَاع على قَضِيَّة الْإِجْمَاع على لازمها، وَلَا من الْإِجْمَاع على بطلَان لَازم قَضِيَّة الْإِجْمَاع على بطلَان ملزومها فَإِن الْإِجْمَاع طَرِيقه النَّقْل لَا الْعقل، وَيبعد مِمَّن لَهُ أدنى مسكة من عقل وَدين أَن يحكم للْأمة الَّتِي شهد لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْإِيمَان، وَأَن يتجاسر على
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute