للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

من الأهلية؛ لأنه قد يظهر من الإنسان أمر على خلاف ما هو عليه، فإذا كان مطلعًا على ما وصفه به الناس حصل اليقين في ذلك. وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكًا؛ لأن التحنك وهو اللثام بالعمائم تحت الحنك شعار العلماء، حتى إن مالكًا سئل عن الصلاة بغير تحنك فقال: لا بأس بذلك، وهو إشارة إلى تأكد التحنيك، وهذا هو شأن الفتيا في الزمن القديم. وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج، وسهل على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وما لا يصلح، وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم: لا أدري، فلا جرم آل الحال للناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال) (١).

واستحضار مثل هذه المعاني يشعرنا بعلو مرتبة الاجتهاد والفتيا وأنها ليست مخولة لكل أحد ولو درس الفقه بأكمله، فإن الفقه ليس معرفة مجردة بل هو ملكة يزكيها العلم وينميها ويشرف الفقهاء الأكابر على رعايتها ونضجها، والعلماء إذا ذكروا أن الاجتهاد في العصور المتأخرة بات أيسر منه فيما مضى من العصور الأولى (٢)، فإنهم لا يقصدون بذلك أنه صار يسيرًا بإطلاق بل هو بالمحل الأعلى، وقصدهم في ذلك أن الجهود العلمية التي قام بها علماء القرون الأولى من جمع السُّنِّة وتمحيصها واستقراء الأصول والقواعد ذللت الكثير من المصاعب


(١) الفروق (٢/ ٥٤٦).
(٢) انظر على سبيل المثال: الروض الباسم في الذب عن سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، ابن الوزير (١/ ٧١).

<<  <   >  >>