الاختلاف بين البشر سنة ماضية بما جبلهم الله عليه من التفاوت في العقول والأذواق والطبائع والأخلاق، وحسم مادة هذا الاختلاف ليس من مقاصد الشارع في وضع الشريعة، ولو شاء الله ألا يختلف الناس لأنزل الشريعة على وجه لا يقبل الاختلاف، ولجعل عامة النصوص قطعية في دلالتها وثبوتها، ولكن الشريعة ذاتها جاءتنا على وجه يحتمل الاختلاف ولا يقطع مادته بالكلية.
ومن المواقف التي تشرح هذا المعنى ما جرى للخليفة المأمون (ت ٢١٨ هـ) مع رجل خراساني ارتد عن دين الإسلام إلى النصرانية، فاجتمع به المأمون وقال له: أخبرني ما الذي أوحشك مما كنت به آنسًا من ديننا؟ فوالله لأن أستحييك بحق أحب إلى من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلمًا بعد أن كنت كافرًا ثم عدت كافرًا بعد أن صرت مسلمًا، وإن وجدت عندنا دواء لدائك تداويت به وإن أخطأك الشفاء وتباعد عنك كنت قد أبليت العذر في نفسك ولم تقصر في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قتلناك في الشريعة وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليقين، ولم تفرط في الدخول من باب الحزم. قال المرتد: أوحشني منكم ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم. قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كاختلافنا في الأذان وتكبير الجنائز وصلاة العيدين