للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فالإيمان المجمل - إذن - هو الحد الأدنى الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وهو متضمن لترك أعمال الشرك، ويظهر في حق من مات قبل نزول الشرائع عامة، أو لم تبلغه تفاصيل هذه الشرائع لوجوده في دار حر ب أو في بادية بعيدة، وينضاف إلى هذا الإيمان المجمل - أو الواجب في حق من ذكرنا - كل شريعة أو فريضة أو واجب نزل وفرض على الناس فمن بلغه هذا الواجب صار إيمانه متضمناً له، فإن رده ولم يقبله بعد نزوله أو بلوغه له، وادعى ثبوته على ما هو عليه من إيمان مجمل كان كافراً، وإن اعتقده والتزمه فهو بين أمرين: أن يكون هذا الأمر من الأعمال التي جعلها الله عز وجل شرطاً لصحة الإسلام - على خلاف فيها كما سنبين - فيكون بتركها كافراً، أو أن يكون من سائر الواجبات العادية فيكون بتركها فاسقاً قد انتقص من إيمانه بهذا القدر (١)


(١) وأما عن المعارضة بحديث البخاري: "أخرجوا من كان في قلبه حبة خردل من إيمان" من باب " تفاضل أهل الإيمان في الأعمال" فننقل ما قاله ابن حجر في شرحه عليه في الفتح، قال: "والمراد بحبة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد لقوله في الرواية الأخرى "أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة" الفتح جـ١ ص ٧٢.

ويستفاد من هذا أن قدر الذرة من الخير إنما هو فيما زاد عن تحقيق التوحيد. وأما عن حديث الجهنميين الذين يخرجهم الله عز وجل من النار دون أن يعملوا خيراً قط فنقول وبالله التوفيق: إن ما نثبته هنا هو دلالة ترك العمل بالكلية على عدم إيمان القلب وسقوط التوحيد وانتفاء الالتزام، وهذه الدلالة هي ما يقتضيه النظر في القواعد التي جعلها الله مقياساً لدينه يجرى على المكلفين في الدنيا، وأما ما هو في علم الله سبحانه في الآخرة وعند الميزان الحق من تحقق سقوط عقد القلب بالفعل عند المعين من الناس لما كان منه في الدنيا من ترك الأعمال جملة – وهو ما اعتبرناه دلالة على سقوط عقد القلب لامتناع حدوث ذلك ممن يلتزم بالشريعة ابتداءً – نقول إن ذلك مرتبط بعلم الله في الآخرة عن تحقق مدلول الدلالة حقيقة، وإنما نحن نقرر مقتضي القواعد التي دل عليها الله سبحانه وتعالى في الشرع، والتي توافق قياس العقل والفطرة من امتناع قيام التوحيد في قلب من ترك الأعمال بالكلية – بعد بلوغها له – وأن هذا يعتبر دلالة على كفر فاعله، وأما حقيقة ما يؤول إليه من تحقق ذلك للمعين من الناس فإن هذا علمه عند الله عز وجل، فهو من باب إثبات الكفر الباطن كما سيأتي بعد، وأما عن الجهنميين فإننا لا نقول إلا أن الله سبحانه لا يدخل الجنة كافراً به قطعاً، فمن دخل منهم أو ممن سواهم فقد تحقق عند الله عز وجل قيام التوحيد في قلوبهم لا محالة. والله تعالى أعلم.

<<  <   >  >>