أحدهما: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف وهي إحدى الروايات عن أحمد واختارها أبو بكر. الثاني: أنه لا يكفر بترك شئ من ذلك مع الإقرار بالوجوب وهو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره.
الثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من السلف وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. الرابع: يكفر بتركها وترك الزكاة فقط. الخامس: بتركها وترك الزكاة إذا قاتل عليها الإمام دون ترك الصيام والحج" الإيمان الأوسط ص ١٥٢. والحق أن هذه المسألة - مع كونها تعتبر مسألة خلافية - إلا أن آراء القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة أو أي من المباني الأربعة هو أضعف الآراء، ولا مستند لهم فيه إلا ومردود عليه بنظر صحيح. وقد رد ابن تيمية على موضوع كفر تارك الصلاة في الإيمان الأوسط (مجموع الفتاوى جـ٧) ورد على شبهات القائلين بخلاف ذلك، والمنقول عن حكم هذه المباني عن الصحابة والتابعين متواتر يدل على كفر تارك الصلاة على وجه الخصوص. يقول ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم": "وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة". وروى مثله من حديث بريدة وثوبان وأنس وغيرهم وخرج محمد بن نصر المروزي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تترك الصلاة متعمداً فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة". وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط إلا به ولو سقط العمود لسقط الفسطاط ولم يثبت بدونه. وقال عمر رضي الله عنه: "لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". وقال سعد وعلي رضي الله عنهما "من تركها فقد كفر". وقال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة". وقال أبو أيوب السختياني: "ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه" وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف. وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحق، وحكى إسحق عليه إجماع أهل العلم. وقال محمد بن نصر المروزي: هو قول جمهور أهل الحديث. وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمس عمداً أنه كافر. وروى ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية. وخرج الدارقطني وغيره من حديث أبي هريرة قال: "قيل يا رسول الله الحج في كل عام؟ قال: لو قلت نعم لوجب عليكم ولو وجب عليكم ما أطقتموه ولو تركتموه لكفرتم". وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على من لم يحج. وقال: ليسوا بمسلمين. وعن ابن مسعود أن تارك الزكاة ليس بمسلم. وعن أحمد رواية أن ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج. وقال ابن عيينة: "المرجئة سموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليسوا سواء لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير عذر ولا جهل كفر" جامع العلوم ص٤١ وبعدها. ويقول ابن تيمية: "وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك. فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة، كقوله: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.. أدخله الله الجنة"، ونحو ذلك من النصوص، وأجود ما اعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهم كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة". قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة. ولا دلالة في هذا، فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) ، وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله الآية بالأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات. وقد قال تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً) ، فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها. فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا بتركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفاراً.."، إلى قوله: "وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم، إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفاراً مرتدين بلا ريب.." الإيمان الأوسط ص ١٥٥ وبعدها. ويقول ابن القيم في كتاب الصلاة: "على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها وهذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها"، كتاب الصلاة ص ١٩. فانظر رحمك الله إلى حكمة ابن القيم في ربطه بين الظاهر والباطن، وهو ما سننبه عليه بعد في حينه إن شاء الله تعالى. وما نريد أن ننبه عليه هنا، هو أن ما أوردناه عن قضية المباني الأربعة إنما هي فرع من أصل قضيتنا، فإن قضيتنا هي لزوم جنس الأعمال لتحقق القدر المنجي من الخلود في النار - لصحة التلازم بين الظاهر والباطن - وقضية المباني الأربعة تدل على أن من الأعمال ذاتها ما يوجب الكفر، وذلك بخلاف المعنى الأول من أنه لابد من تحقق قدر عملي من أعمال الطاعة عامة لتحقق أصل الإيمان وثبوت الصفة في أدنى صورها للمرء، فترك الأعمال جملة بالكامل كفر، كما سنبين، إلى جانب ترك الأعمال المشترطة لصحة الإسلام على خلاف فيها كما أوردنا. والله تعالى أعلم.