للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وفي التعدية"بـ" الباء" دلالة على كمال تلبس الفعل بماوقع عليه، فـ"الباء" حرف " إلصاق" فإذا ما استحضر، والفعل مستغنٍ في نفسِه عنه في تعديته، فإنَّ في استحضاره إشارةً إلى كمال تحقق معناه في علاقة الفعل بماوقع عليه وأن فاعله قائم به قيامًا بليغا،

وهذاغيرقليل في القرآن الكريم، فإنَّ مواقع" الباء" في البيان القرآني يفتقرالمرء إلى تقصِّيها وتدبُّر كل موقع في سياقه ومقاصد ذلك السياق.

المهم أن في هذا دلالةًً على أنَّه قد كان منهم الرِّضا الكاملُ،وكأنَّهم في رضوانهم بالحياة الدنيا لايتطلعون إلى شيء من الحياة الآخرة، وهذا من المَعابات التى ينفر منها كلُّ عاقلٍ إذا ما انْتَبَه أو نُبِّه إليها

وفي نعت الله عز وعلا " الحياة" بأنها "الدنيا" تنفير بليغ من الإخلاد إليها، والركون إلى متاعها الناقص الزائل، وإغراء عظيم بالفرار من قبضتها إلى رحابة الحياة الآخرة

ومن اللطيف أنَّ الله جلَّ جلاله لم يتركنا نَخْبُر متاعَ الحياة التى نحن فيها لنعلم خبرها: أعَلِيٌّ هوأم دنِيٌّ، بل نادى عليها في مواطن كثيرة من كتابه المجيد بأنَّها الحياة الدنيا، ولم يقل الحياة الدانية أو الدَّنِيَّة بل بلغ بها الغاية "الدنيا"، وكأنه ليس من دون ذلك حياة.

وكلُّ نفسٍ سامية شريفة تنفرُ من كلِّ ماهو دانٍ ودَنِيءٍ، وإن كان فيه متعتها أوْ بقاؤها، فهي تُفَضِّلُ الموت على أن تقترف ما هو الدنيُّ الدَّنِيء، كذلك دَيْدَنُ الشُّرفاء:أشْراف النفوس لا أشْراف الأنساب المزعومة، وأدعِياؤه اليوم كُثْرٌ.

وفي قوله " من الآخرة" إيماء إلى أنَّهم كأنَّهم أقاموا موازنة في نفوسهم بين حياتين: حياة عاجلة دانِيَةٍ دَنِيَّة،وحياة آجلة سَنِيَّة، فوثقت نفوسهم المتثاقلة فيما هو حاضر زائل ورغبت عما هو خالد آجل فرضيت بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة،فقوله " من الآخرة" متعلق بمحذوف تقديره " بدلا" من الآخرة

وفي نعت الحياة الثانية بقوله " الآخرة " وكان مقتضي الظاهر أن يقابل " الدنيا" بـ"العليا" أو يقابل الآخرة بالأولى، ولكنه صرف البيان عن الحياة المقابلة للحياة الدنيا إلى نعت "الاخرة " إشارة إلى أنه وإن لم يكن لها من فضل ومزية سوى أنها الاخرة التى ليس من بعدها حياة، وإن كانت في مستوى الحياة المقابلة لها " الحياة الدنيا" فإنَّ العاقلَ لَيُقْبِلُ على ما هو خالد لاينقطع وإنْ كان قليلا، فكيف إذا ماكان هذا الآخر هو العَلِىَّ الذي ليس يُقاربه غيره؟

وكأنَّ في هذه المقابلة بين الحياتين تعليما وتربية لنا: إنَّه إذا ما قابَلْنا بين أمْرين متساويين في القدر إلا أنَّ أحدَهما منقطعٌ والآخرُ دائمٌ لاينقطع فإنَّ مَنْطِقَ الحكمة اختيارُ ما هو دائم لاينقطعُ وإنْ كان من دون الزائل المنقطع، فكيف إذا ما كان أعلى منه وأخلد؟

إِنَّ هذا لَيُصَوِّرُ لك عظيم ما أَوْقَعَ فيه الرَّاضون بالحياة الدنيا أنفسهم فيه من بلية الغبن العظيم

(يَاقَوْمِ إنماهذه الحياة الُّدنْيَا متاع وإنََّ الآخِرَةَ هِيَ دَار القَرار) {غافر٣٩}

وفي قوله " من الآخرة" حذف للموصوف وإقامة للصفة مقامه، والتقدير: من الحياة الآخرة، في مقابل:" الحياة الدنيا "

<<  <   >  >>