للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الآخر: أن الاخرة كلها نعيم، فليس النعيم بعضها ليقابل بعض الدنيا بل الآخرة كلها قائمة مقام النعيم، فما من شيء فيها إلا هونعيم مقيم

وفي هذا إبلاغ في توسيع شقة المقايسة بين أمرين هما في الحقيقة ليسا بمنزلة ما تقام بينهما مقايسة، فإنَّ العاقل لايقايس متاع دنيا بنعيم آخرة

وكأنَّ البيان القرآني الكريم يتنزل هنا على ما هو قائم في نفوس أولئك، مجاراة لهم وتأليفا لقلوبهم

وكأنَّه يقول لهم وإن قايستم بينهما تنزلا، فإنَّ أعلى ما تنتهي إليه المقايسة التنزيلية أن متاع الدنيا في الآخرة قليل

وفي جعل طريق التخصيص هنا: " النفي والاستثناء" إشارة إلى أنَّ هذا مما قد ينازع فيه بعض المخاطبين منازعة سلوك وحال، لامنازعة لسان ومقال، وبيان الحال والسلوك أقوى وآكد من بيان اللسان.

[بلاغة أسلوب الشرط في قوله تعالى]

(إلاَّ تَفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًأ أليمًا......)

في هذه الجملة القرآنية شرط تهديديٌّ، يختلع القلوب من الصدوربناه على أداة الشرط (إن) الداخلة على الفعل المنفي " لاتنفروا" وفي اصطفاء "إن" المقيمة جانبي الأمر على درجة سواء إقامةٌ للمخاطبين مقام المواجهة مع أنفسهم في حالتيها، فينظرون عاقبتهم في كل حال، وأبرز لهم عاقبة الرغبة في عدم النِّفار: (إن لاتنفروا) حتى يتبين لهم ما إذا كانوا قادرين على تلقى ذلك الجزاء المرعب الذي صرح لهم به: يعذبكم عذابا أليما....

فالتصريح بما تترتب عليه المضرَّة أقوى في البعث من التصريح بما تترتب عليه المسرَّة حين تكون النفوس آنسةً بما هو حبيب إليها من الدّعة ولا سيما أنها قد أُغْرِيت بما هو العَلِىُّ فلم تستقم، فأنت مفتقر إلى أن تنزعها منه إلى نقيضه المرعب، لاأن تنقلها مما هي فيه إلى ما هو أعلى منه من جنسه ولو تَوَهُّمًا أنه من جنسه،فإنها لم تستجب من قبلُ إلى ذلك الإغراء، فلا يبقى إلا التهديد بما يرهب ويرعب

من أخلد إلى راحة دنية لاتنزعه منها بالإغراء إلى راحة سنية بل تنزعه منها بالتهديد والوعيد

ذلك وجه من وجوه الإتيان بأسلوب الشرط على هذا النهج: أدخل الأداة على الفعل المنفي (إن لاتنفروا) ولم يقل (إنْ تنفروا يدخلكم جنات ...

وهو لم يذكر لهم ما ينفرون إليه؛لأن السياق قد قام بتعيينه،وهو النِّفار إلى الجهاد في سبيل الله، والنفار عن أرضهم وديارهم التى أخلدت إليها نفوسهم الأمارة بالسوء

هكذا يؤوب بهم إلى صدر ذلك الاستفهام: "مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله...." فيستحضرون تلك المعانى في نفوسهم لعلها ترتدع فتقبل على ما تدعى إليه وتغْرى به، وتخشى ما تهدد به فترتدع

<<  <   >  >>