والثاني: يُبدىءُ العذابَ في الدنيا ويعيدُه يومَ القيامة، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، ورجَّحه ابن جرير، فقال: «وأَوْلى التأويلينِ في ذلكَ عندي بالصواب وأشبههما بظاهر ما دلَّ عليه التنزيل، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أنه يبدىءُ العذابَ لأهلِ الكفرِ به ويُعيد، كما قال جل ثناؤه: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} في الدنيا، فأبدأ لهم ذلك في الدنيا، وهو يُعيدُه لهم في الآخرة. وإنما قلت: هذا أَوْلى التأويلين بالصواب؛ لأن الله أتبعَ ذلك قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، فكان للبيان عن معنى شِدَّةِ بطشِه الذي قد ذكره قبله، أشبه به بالبيان عما لم يَجْرِ له ذِكر، ومما يؤيِّدُ ما قلنا من ذلك وضوحاً وصحَّة، قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}، فبيَّنَ ذلك عن أن الذي قبلَهُ من ذكرِ خبره عن عذابه وشدَّة عقابه». (١) فسَّر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة الودود بأنه الحبيب، وفسَّره ابن زيد بأنه الرحيم، والرحمة من لازم المحبة. قال ابن القيم: «... الودود: المتودِّدُ إلى عبادِه بنِعَمِه، الذي يَوَدُّ من تابَ إليه وأقبلَ عليه. وهو الودود أيضاً؛ أي: المحبوب، قال البخاري في صحيحه: «الودود: الحبيب». والتحقيق أن اللفظَ يدلُّ على الأمرين، على كونه وادّاً لأوليائه، ومودوداً لهم، فأحدهما بالوضع، والآخر باللزوم. فهو الحبيب المحبُّ لأوليائه يحبُّهُم ويحبُّونَه، وقال شعيب: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: ٩]، وما ألطفَ اقترانَ اسم الودود بالرحيم وبالغفور؛ فإن الرجلَ قد يغفرُ لمن أساءَ إليه ولا يحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يُحِب، والربُّ تعالى يغفرُ لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبه مع ذلك؛ فإنه يحبُّ التوَّابين، وإذا تابَ إليه عبده أحبَّه، ولو كان منه ما كان». (التبيان في أقسام القرآن: ٥٩ - ٦٠). (٢) فسَّر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: المجيدَ بالكريمِ. (٣) سبق تفسير العرش، وقد وردَ في المجيد قراءتان: الأولى برفع المجيد، وتكون من صفة الله سبحانه، والثانية بخفض المجيد، وتكون من صفة العرش؛ أي: العرش المجيد الذي صار شريفاً ورفيعاً بعلُوِّه على المخلوقاتِ، وكونه هو الذي اختصَّ باستواء الرحمنِ عليه من بين المخلوقات، والله أعلم.