للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فحين يدخل العالم في عهد القمر الصناعي، ندخل نحن في عهد الكاديلاك، ونشعر أننا حققنا خطوة لا بأس بها في التقدم، لأننا كنا في عهد الحمار في بعض البلاد العربية. إنني لم أذكر هذا المثل للشعور بحاجتنا إلى القمر الصناعي والصاروخ الموجه، وإنما ذكرته لتوضيح الموقف، بل أشعر أن حاجتنا الأساسية في عالم النفس أكثر منها في عالم الأشياء. إن حاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد .. الإنسان المتحضر .. الإنسان الذي يعود إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا منذ عهد بعيد. وصياغة هذا الجهاز الدقيق الذي يسمى الإنسان، لا تتم بمجرد إضافة جديدة إلى معلوماته القديمة لأنه سيبقى هو قديماً في عاداته الفكرية وفي مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية، وفي فعاليته إزاءها، وخاصة في لافعاليته التي نجد أكثرها عندما تفاجئنا الظروف أحياناً ببعض الفضائح أو ببعض المآسي، مثل غرق السفينة (دندرة) في النيل، أو عندما نحلل صورة شمسية تكشف لنا موطن الضعف في المجتمع، كما كشفت لنا الصورة التي أتاحت لنا موازنة النهضة في اليابان مع النهضة في البلاد الإسلامية عموماً والعربية خصوصا، كما سبق.

وإذن فإن قضية اجتماعية مهما كانت ظروفها لا تعالج بالبديهيات التي ترى العلاج النافع في وضع النقيض أمام كل داء. فقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً دواؤها الرطوبة، ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد التفكير وعادة تحجّر الفكر. فلو استسلم الطب لحكة كهذه مع رشدها وصلاحيتها في بعض الظروف، لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف العلاج النافع لداء الكلب مثلاً، لأن هذا الطريق المبتكر كان في اتجاه يخالف تماماً حكمة النقيض، إذ نرى (باستور) يعالج الداء بالداء نفسه. فيجب إذن أن نحترز، قدر الإمكان في معالجة المشكلات الاجتماعية، من الطريقة التي تتخذ لكل داء نقيضه دواء، فنضع مثلاً العلم أمام الجهل دون قيد أو شرط، ونجد أنفسنا أحياناً وبالتالي أمام عالم نفعي غير نافع، يعيش على جسم المجتمع مثل النبات الطفيلي على الأشجار.

<<  <   >  >>