أتى القرن الثامن الهجري، فأخذت الحضارة الإسلامية في الافول وبدأت الظلمات تغمرها في الأندلس، لأنها فقدت مسوّغاتها فلم تستطع أن تدفع من جديد طاقاتها الاجتماعية، وانطفأت تدريجياً جذوتها الدافعة للضمير واليد والعقل، وأصبحت دوافع الحياة فاترة، وفقدت المصلحة سموها تدريجياً، وهي التي تهدف إليها الطاقات الاجتماعية، حتى أصبحت مسوّغات المجتمع الإسلامي حيوانية عليها غلاف من إنسانية بسيط، تعبر عنه فلسفة ساذجة أفرغت حكمتها الميتة في العبارة التي ترددها الجماهير بالشمال الإفريقي، حيث يقول الفرد عندما يسأل عن مهمة حياته ((نأكل القوت وننتظر الموت))، ولا يوجد تعبير أكثر وضوحاً من هذا التعبير عن مجتمع فقد تماماً مسوّغات الوجود.
ولا شك أننا لو درسنا التاريخ الإسلامي في ضوء هذه الاعتبارات، لوجدنا
أن المجتمع الإسلامي واجه أزمة فقدان المسوّغات منذ زمن مبكر، وأن الحركات الإصلاحية، التي نشأت فيه في مختلف صورها، تعبر عن هذه الازمة بما فيها الحركة الصوفية التي تمثل إلى حد ما الدوافع السلبية، التي تدفع إلى انتحار الفرد الذي فقد مسوّغات حياته، فالصوفي يخرج أيضاً عن النظام الطبيعي للحياة، ويتخلص من مسؤولياتها عن طريق الاوراد والسبحة، كما يتخلص المنتحر العادي عن مسؤولياته بوسيلة الخنجر، فالصوفي ينتحر بوسائل الروح.
فهذه الازمة التي عاناها المجتمع الإسلامي منذ عهد مبكر، هي التي أوحت
إلى الغزالي بمحاولته عندما كتب (إحياء علوم الدين). إن حجة الإسلام كان يشعر ولا شك أن المجتمع الإسلامي قد فقد مسوّغاته، وأراد هو أن يقدم له أو يعيد له المسوّغات الضرورية عن طريق كتابه.
ولقد ندرك مقدار نجاحه أو فشله في محاولته هذه على ضوء التاريخ،
إدراكاً لم نر معه العالم الإسلامي قد استعاد مسوّغاته المفقودة عن طريق التصوف أو عن طريق كتاب (إحياء علوم الدين).