وها نحن أولاء في القرن العشرين أمام مأساة أخرى، مأساة المجتمع الغربي،
الذي يمر بدوره بأزمة فتور، لأنه فقد مسوّغاته التقليدية، المسوّغات التي أعطت للشخصية الاوربية في القرن التاسع عشر أقصى توترها، عندما كانت أوربا تؤمن بالتقدم العلمي وبالحضارة وبالإستعمار رسالة حضارية، فكانت هذه المسوّغات تحرك وتوجه كل الطاقات الاجتماعية: اليد والقلب والعقل في أوربا، وتوحد صفوفها في العالم، إذ كان الاوربي ينظر إلى التقدم العلمي ميزة يمتاز بها عقله، وإلى الحضارة على أنها فطرته، وإلى الإستعمار على أنه امتداد حضارته خارج حدود أوروبا.
وقد كانت هذه الأشياء وعلى الاقل الشيئان الأولأن منها، تحقق الإجماع في الداخل في حدود أوربا والإعجاب في الخارج خارج حدودها.
وحينما جاءت الحرب العالمية الأولى بدأت أوربا تفقد ثقتها في مسوّغاتها، وبدأت هذه المسوّغات تفقد قداستها، لأن التقدم العلمي لم يبق شيئاً مسلماً به، شيئاً فوق المناقشة، بل أصبح غير كاف بوصفه مسوّغاً يحقق الإجماع في الداخل والإعجاب في الخارج.
ثم أتت الحرب العالمية الثانية فحطمت نهائياً وحدة أوربا المعنوية وقداسة مسوّغاتها، وكان من أعمق آثارها في الحالة النفسية الاوربية، أن الإستعمار قد فقد قيمته بوصفه مسوّغا لا من الناحية الأخلاقية الخاصة ببعض الضمائر الاوربية الممتازة فحسب، بل فقد حتى قيمته الواقعية، إذ لم يصبح في استطاعة الشاب الاوربي أن ينظر إلى خريطة الأرض كما كان ينظر لها في القرن التاسع عشر، عندما كان ينظر إلى كل بقعة بيضاء على الخريطة، على أنها من مجاهل الأرض التي تنتظر اكتشافه، أي على أنها البلاد المعدة لامتداد شخصيته في هذا الكون.
فالاوربي أصبح يرى اليوم تلك البقاع البيضاء ملونة، وأهلها ثائرون على سلطته، ساخطون على حضارته، في الوقت الذي ينشر فيه كتاب لغاندي