تخلف أيضاً طمياً من نوع آخر تخلفه في العقول، حيث تترك بذوراً تنبعث منها الأفكار التي تغير مجرى التاريخ ووجه العالم.
فهكذا شأن الحرب العالمية الثانية: إنها حصدت عشرات الملايين من البشر وتركت على الأديم سيلا من الدماء في ساحات القتال، وفي المدن المحطمة، ولكنها خلفت أيضاً في العقول بذور أفكار بدأت تظهر آثارها في اتجاه العالم اليوم.
إن التضامن الإفريقي الآسيوي من هذه الأفكار وهذه الأحداث التي انطلقت إثر الحرب العالمية الثانية، وظهرت في حلبة السياسة الدولية منذ مؤتمر باندونج، الذي كشف للرأي العالمي عن وجود قوى جديدة دخلت التاريخ لتغير مجراه، كما كشف عن الشعور العميق في العالم إزاء هذه القوى كشفاً بدأ أثره يظهر غداة المؤتمر، عند بعض الكتاب في الغرب، حتى إن أحدهم عبر، أو على الأصح، ترك لمؤرخ في سنة ٢٠٠٠ ميلادية أن يعبر عن وجهة نظره في الموضوع، فيقول المؤرخ ((إن مؤتمر باندونج لم يحقق أي نتيجة عاجلة، ولكنه كان المركب للقوى التي خطت الطريق لتطور التاريخ، وشكلت العالم الذي نعيش فيه اليوم)) (١).
وعلى فرض أن باندونج ((لم يحقق أي نتيجة عاجلة)) كما يقول هذا الكاتب، ونحن على خلاف ذلك نرى أن شعوره نفسه يعبر بكل وضوح عن (نتيجة عاجلة)، حققها المؤتمر في المجال النفسي على الأقل، فإننا نعد باندونج من الوجهة الشكلية أول تعبير صريح عن دخول القوى الإفريقية الآسيوية في التاريخ وفي حلبة النضال السياسي العالمي، وإذا ما أضفينا على هذا الحادث التقدير، الذي يعيره له مؤرخ سنة ٢٠٠٠ في الجملة التي ذكرناها، أدركنا أن
(١) ولا شك أن القوى التى تجمعت تحت راية عدم الإنحياز هي من هذه القوى.