خرجتُ أجُرُّ الذيلَ مني كأنني ... عليك أميرَ المؤمنين أميرُ
وفيه قال أُزَيْهر النُميريّ فوافق طرفة:
وندمانِ صدقٍ له بهجةٌ ... كريمُ الفُجاءة رحبُ العَطنْ
أكلنا الغريض على كأسهِ ... ولم يدرِ نِدمانه ما الثمنْ
وراح نداماه لم يغرموا ... وراح إلى أهله قد غبنْ
وقال المَرّار بن سلامة العِجلي:
وفتيان يهولك أنْ تراهم ... سَبَأتُ لهم من الرّاح المدامِ
فلما أن شربنا وانتشينا ... ودَبّت في المفاصل والعظامِ
نهضتُ إلى عتيقٍ مَشرفيٍّ ... حديثِ الصَّقْل مأثورٍ حُسامِ
لبركٍ هاجدٍ فاعتمتُ منه ... علاةَ الجسم تامكةَ السَّنامِ
وهذا موافق لطرفة لفظا ومعنى، وقد وافقهما في اللفظ والمعنى البُرْج بن مُسْهر حيث يقول:
ونَدمانٍ يزيد الكأسَ طيباُ ... سقيتُ وقد تغوّرت النجومُ
فلما أن تَنَشّى قام خِرْقُ من الفتيان مختلقٌ هضومُ
إلى وجناءَ ناوية وكاست ... وهى العُرقوبُ منها والصَّميمُ
فأشبعَ شَرْبَهْ وجرى عليهم ... بإبريقين كأسُهما رَذومُ
وقد قال عنترة فوافق طرفة:
فإذا شربت فإنني مُستهلِكٌ ... مالي وعِرضي وافرٌ لم يكلمِ
وقد قال ابن قتيبة: لولا أنّ عنترة قال بعد هذا البيت:
وإذا صحوتُ فما أُقصّر عن ندىً ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي
لعيبَ كما عيبَ على طرفة، والعرب قد تمدح الرجل بالجود على السُّكر كما تمدحه به في الصحو. يوضح ذلك قول امرفي القيس:
وتعرف فيه من أبيه شمائلاً ... ومن عمّه ومن يزيدَ، ومن حُجُرْ
سماحةَ ذا، وبرَّ ذا، ووفاء ذا ... ونائلَ ذا إذا صحا وإذا سَكِرْ
والخمر لا تنقل الإنسان عن طبعه كما يقول بعض الناس، وإنما تزيد فيه إن كان كريما زادته كرماً، وإن كان لئيماً زادته لؤماً، وكل من سكر حاد كما قال في بيت عمرو بن كلثوم، ألم تسمع إلى قول عَرْقل بن الخطيم السَّعديّ:
أُحبُّ اللّينين من النَّدامى ... وأبغضُ كل ندمانٍ وَقاحِ
يزيد العُقدتين إذا انتشينا ... على ما كان يعقدُ وهو صاحِ
والى قول الشاعر: بئس الصُّحاة وبئس الشَّرْبُ شُربُهم إذا جرت فيهم المُزّاءُ والسُّكرُ وإلى قول الجَرْمي:
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ ... لبئس الندَّامى أنتمُ آل أبجرا
أنزفوا: سكروا، قال الله عز وجل في صفة الخمر: (لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنزفون) .
وأوضح من هذا كلّه، قول الشاعر:
تزيد حسا الكأسِ السفيه سفاهةً ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا
وكان أبو عمرو يردُّ على رؤبة قوله:
لا تكُ كالرّامي بغير أهزعا
ويقول: إنما يقال: " ما في كنانته أهزع " كما يقال: " ليس فيها ديّار " في موضع النفي.
وقد جاء الأهزع في كلامهم موجباً، قال ريّان بن حُوَيص:
كَبِرتُ ودقَّ العظم مني كأنما ... رمى الدهرُ مني كلَّ عِرقٍ بأهزعِ
وقال النمر بن تولب:
فأخرج سهماً له أهْزعاً ... فشكَّ نواهقَهُ والفَما
وقال بعض جَرم:
فأسْعِلِ الغَير بحشرٍ أهزعا
قوله: أسْعل، كقول لبيد:
فتآيا بطِريرٍ مُرْهفٍ ... جُفرةَ المَخْرم منه فَسَعلْ
٣٦ - وكان أبو عمرو يعيب على ذي الرمة في قوله:
حتى إذا دوّمت في الأرض راجعَهُ ... كِبْرٌ ولو شاءَ نجّى نفسه الهَرَبُ
ويقول لا يُقال: دوّم في الأرض، إنما يقال: دوّى في الأرض، وتابعه الأصمعي في ذلك فقال: التدويم ارتفاع مع استدارة، يقال: دوّم الطائر في السماء، ودوّى السَّبع في الأرض.
وقد أنكر هذا الرد ابن الأعرابي وقال: إن كان لا يقال دوّم في الأرض فمن أيَّ شيء سُميت الدوّامة. وقد صدق ابن الأعرابي: دوّم ودوّى بمعنىً. وأنا أقول: لو لم يكن التدويم إلا في السماء لما قيل أصاب فلاناً دُوامٌ كما يقولون: أصابه دُوارٌ، ولما قالوا: دُومة الجندل.