وفي هذه الرواية أيضا غلطان: وإنما الوجه ببابليون، وهو اسم مصر بلغة السودان، وتمسي جفانه لأن المساء وقت الإطعام، ومجيء الأضياف، وقال الرواة في قول الخنساء:
يذكرني طلوعُ الشمس صَخراً ... وأذكرهُ لكلِّ مغيبِ شمسِ
أنها تبكيه عند طلوع الشمس للغارة، وعند مغيبها للأضياف. على أن تغدو قد يجوز، وباب اليون لا يجوز.
٣١ - وأنشد أبو عمرو:
ألا بكّر الناعي بخيريْ بني أسَدْ ... لسعدِ بن مسعودٍ وبالسيد الصَّمدْ
وإنما الرواية: لعمرو بن مسعود.
٣٢ - وقال أبو عمرو في قوله: " لا إسلالَ ولا إغلال ". الإسلال: السَّرَف، والإغلال: الغش، ويقال: " إنّ في بني فلان سِلّة ". أي: سَرَف، والإغلال: كأنه من الغل يعني الغش.
وإنما الإغلال من الغل، وهي الخيانة يقال: غلّ يغُلّ غلاً إذا خان. ومنه قول الله عز وجل (وما كان لنبيٍّ أن يغُلَّ) ، والغل: الخيانة، وأنشد أبو حاتم لامرأة في صفة نخلة:
أضلّها أضلّ ربي عمله ... ثم أتى فاخرها فأكله
ثُمت قالت عرسه: لا ذنب له ... لو قتل الغل امرأً لقتله
ولا معنى للغُلّ مع السّل، وإنما الإسلال من السِّلة والإِغلال من الغُل.
[هذا آخر ما في نوادر أبي عمرو]
من السهو ٣٣ - فأما ردّه على الشعراء فإنا نذكر منه ما وافقه عليه الأصمعي ووهما فيه، فمن ذلك قول النابغة يصف الثور:
يحيد عن أسْتنٍ سودٍ أسافله ... مثل الإماء الغوادي تحمل الحُزَما
قالا: إنما توصف الإماء بالرَّواح بالحطَب لا بالغدو، وأنشد قول الراعي:
هلاّ سألتَ هداكَ الله ما حَسَبي ... إذا رعائيَ راحتْ قبل خطّابي
وأنشد الأصمعي:
تظل بها رُبْدُ النعام كأنّها ... إماءٌ تُزجّى بالعشيّ حواطبُ
وكان الرياشي ينكر على الأصمعي هذا، ويقول: إنما تغدو الإماء لتحمل الحزم رواحاً، وكان أبو عبيدة يقول: لم يقل النابغة: إلاّ عشاء الغوادي تحمل الحُزُما.
فإن كانت الرواية كما قال أبو عبيدة فقد غير بيت النابغة، وإن كان كما روياه، فقول الرياشي واضح بين جيد، ومثله قول العجاج:
يكشف عن جمّاته دلوُ الدَّالْ ... غيابةً غثراء من أجْنٍ طالْ
وإنما الدّالي الذي ينزع الدلو من البئر مملوءة، يقال: دلا دلوه يدلوها دَلْواً فهو دالٍ، قال الراجز:
دلواً ترى الداليَّ منه أزورا
وأدلى دلوه يُدْليها إدلاءً فهو مُدلٍ إذا أرسلها ليملأها، قال الله عز وجل: (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) أي أرسلها، وإنما يكشف عن الجمّاة دلواً المدْلي إذا أرسلها، ثم تصل إلى الماء فتغرق، ثم يدلوها بعد ذلك، وقد ذهب ما كان على الجمّاة فلما كان المُدْلي أدلى عاد فدلّى، قال العجاج:
دلو الدّال
وكذلك الإماء كنّ إذا غدون رحن يحملن الحَطب، قال النابغة: مثل الإماء الغوادي ...
وقد غلط في تفسير بيت العجاج جلّة الرواة وآخرهم ثعلب، وما علمت أن أحداً شرحه شرحنا؛ ونحمد الله على ما أولى وإياه. نستزيد من الحُسنى.
٣٤ - وكان الأصمعي وأبو عمرو يعيبان طرفة في قوله:
وإذا ما شربوا ثم انتشوا ... وهبوا كلَّ أمونٍ وطِمِرْ
ويقولان: الخمر تُسمِّحُ البخيل؛ وينشدان قول عمرو بن كلثوم:
ترى اللّحِزَ الشحيحَ إذا أُمّرت ... عليه لمالهِ فيها مُهينا
وقال الأصمعي: إنما الجيد قول زهير:
أخي ثقةٍ لا تُذهِب الخمر مالَهُ ... ولكنه قد يُذهب المالَ نائلُه
وقد وهما وأصاب طَرَفة. أما بيت عمرو بن كلثوم فلا حجة لهما فيه، لأنه قال: لماله فيها مهينا. فلم يخرج بسماحته عنها.
وأما بيت زهير فمدح حسن. وإنما وصفه بالكرم والإعطاء، وإن ذلك يتلف مال لا شربه الخمر، ولكن قول طرفة يريد به: أنهم إذا شربوا وهبوا ما يملكون ثم ذكره، فقال: كل أمون وطِمِر. وهذا كقول المُنخّل اليشكري:
وإذا انتشيت فإنني ... ربُّ الخورنق والسَّديرِ
وإذا صحوت فإنني ... ربُّ الشويهة والبعيرِ
وهذا فعل الخمر؛ ولذلك قال الأخطل:
إذا ما نديمي عَلّني ثم عَلّني ... ثلاثَ زجاجاتٍ لهنّ هديرُ