خراعيبُ أُملودٍ كأنَّ بناتها ... بنات النَّقا تخفى مِراراً وتظهرُ
بنات النَّقا: دوابّ مثل العِظاء يكن في الرمل شبّه الأصابع بها. وقد أساء وتبعه الأصمعي فقال: بئس ماشبّه.
وقد أساءا هما في الردّ عليه، ولقد أحسن ذو الرمة وأجاد ولولا أحسانه ما تبعه أبو النجم فقال:
تقول لي ذات الخِضاب الناضي ... عن كبنات الأجرع النّضاضِ
وحَفْصٌ الأُمويّ فقال:
أوحت بكفٍّ بنانُها سَبطٌ ... مثل بنات النّقا مُحَنَّؤها
وهذا معنى لم يبتدعه ذو الرمة وإنما نقله عن قول امرفي القيس:
وتعطو برخصٍ غيرِ شَثَنٍ كأنَه ... أساريعُ ظبي أو مساويك إسحلِ
وظبي: واد. والأساريع: دوابّ تكون في البقل حسانٌ ليّنة مُنقطة بكل لون واحدها أُسروع.
والمعنيان - وإن تقاربا - فالشبه ببنات النقا أحسن وأولى من الأساريع وإن كان حسنا.
وروى ابن دريد - في خبر الطمحي من كندة: " فأبرزت كفّاً كبياضِ الإغريضِ؛ وأنامل كبنات النَّقا ".
ولو علما وجه التشبيه لمّا ردّا عليه، وإنما التشبيه بالبياض لا بالخلقة، وقد تُشبّه المرأة ببنت النّقا، لذلك قال الحطيئة:
عليلاً على لبّات بيض كأنّها ... بناتُ النَّقا منها المقاليتُ والنُّزْرُ
وقال الراعي وذكر نساءً:
بنات نقا ينظرن من كلِّ كورةٍ ... من الأرضِ محبوّاً كريماً وبائعاً
وقد أنعمنا وصف بنت النقا في باب البنات من كتاب الآباء والأمهات، وأنت تجد ذلك متى أرغبته هناك.
٤٥ - وقد كان الأصمعي - دون أبي عمرو - شديد العصبية على جماعة من الشعراء لعِلل سنذكرها عند ذكر ما نذكرهم به.
فعِلّة ذي الرمة مع اعتقاد ذي الرمة العدل وكان الأصمعي جَبْرياً. وقيل لأبي عثمان المازني: لم قلّت روايتك عن الأصمعي قال: رُميت عنده بالقَدَر، والميل إلى مذهب أهل الاعتزال، وجئته يوماً وهو في مجلسه فقال: ما تقول في قول الله عز وجل: (إنّا كلَّ شيءٍ خلقْناه بقَدَر) . فقلت: سيبويه، يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب لاشتغال الفعل بالمضمر، وأنه ليس هاهنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القرّاء إلاّ النصب، فنحن نقرؤها لذلك اتباعاً لأن القراءة سُنّة. فقال لي: فما الفرق بين الرفع والنصب في المعنى فعلمت مراده، وخشيت أن يغري بي العامة فقلت: الرفع بالابتداء، والنصب بإضمار فعل وتعاميتُ عليه. فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يوماً لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن البصري فإني أريد أن أُطلِّق النَّوار وأُشهده على نفسي فقالوا له: لا تفعل فلعل نفسك تتبعها وتندم، فقال: لا بد من ذلك. فمضوا معه فلما وقف على الحسن قال له: يا أبا سعيد تعلمن أن النوار طالقٌ ثلاثاً. قال: قد سمعت، فتتبعها نفسه بعدُ، ونَدِم فأنشأ يقول:
ندمتُ ندامة الكُسَعيِّ لمّا ... غَدَتْ مني مطلقةً نوارُ
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدمَ حين أخرجه الضِّرارُ
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان عليّ للقدر الخِيارُ
ثم قال: العرب تقول: " لو خيرت لاخترت " تحيل على القدر، وينشدون:
هي المقادير فلُمْني أو فذرْ ... إن كنتَ أخطأتَ فلم يخط القدرْ
ثم أطبق نعليه، وقال: نِعم القِناع للقَدَري.
فأقللت غِشيانه بعد ذلك.
٤٦ - وحكى أبو العباس أحمد بن يحيى: أن ذا الرمة لما قال:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمرُ
قال الأصمعي: فعولين بالألباب. فقال له اسحق بن سُويد ألا قلت: فعولان. فقال: " لو شئتُ سبّحتُ ".
وكان الأصمعي لهذه العِلّة يكثر الأخذ على ذي الرمة، والهوى يُردي، ولقد تعدّى ذلك إلى أن كان يعترض عليه في أفعاله فيكون في ذلك مخطئاً لما قال ذو الرمة:
فلما مضت عند المُثنّين ليلةٌ ... وزادَ على عشرٍ من الشهر أربعُ
سرت من مِنىً جُنحَ الظلام فأصبحت ... ببسيان أيديها مع الفجر تلمعُ
المُثنون: الذين أقاموا ليلتين بعد النحر. يقول: سرت أنا ونفرت ليلة أربع عشرة.