وقال: يعني ما ثقب من الفسيل في أصوله، وانما تُثَقَّب إذا قويت جداً فخيف عليها أن تستفحل، فيثقب أصلها ثقباً نافذاً لئلا يغلو في القوة، ويثقب بالعَتَل. وقوله: ثاقبة يريد ذات ثقب كما قال الآخر:
جوف اليراع الثَّواقبِ
أي ذوات الثَّقب، قال: ومثله شجر ثامر أي: ذو ثَمَر.
هذا كلام أبي حنيفة وروايته وتفسيره. وما أحسبه لو كان أصاب في الرواية، ولكنه قد غلط فيها والشعر مرفوع والرواية:
أبعد عطيّتي ألفاً جميعاً ... من المرجوّ ثاتبهُ الهِراءُ
أذمُّك ما تَرترق ماءُ عيني ... عليَّ إذن من الله العفاءُ
وقال أبو حاتم في قوله: ثاقبه الهراء يعني: قد طلع فسيله.
٥٣ - وروى أبو حنيفة عن أبي عمرو: وهي بلغة أهل المدينة الرّقلة، وهي الرِّقال، والسَّحوق، والباسقة: تلعة.
وقد أساء في هذا القول، وأساء من حكاه عنه ولم ينكره، والله تبارك وتعالى يقول: (والنَّخلَ باسِقاتٍ لها طَلْعٌ نَضِيدٌ) .
٥٤ - وقال أبو حنيفة: وأفضل الغراسة ما بُوعد بينه حتى لا تمسّ جريدة نخل جريدة نخلة أخرى، وشرُّه ما قورب بينه.
وقد غلط في بعض هذا القول، وأصاب في بعض، وسيأتي الشرح على ذلك، عند انقضاء كلامه وما أورد.
وقال: قال الأصمعي، يقول أهل الحجاز المُحِقُّ: الخفيُّ النخل المقارب بينه، قال: ومما كانت العرب تتكلم به على ألسن الأشياء أن نخلة قالت لأخرى: " أبعدي ظلي من ظِلك، أحمل حملي وحملك ".
وقال الأصمعي: أخطأ المرّار في قوله في وصف النخل:
كأنَّ فروعها في كلِّ ريحٍ ... جَوارٍ بالذوائب يَنْتصينا
ثم فسر أبو حنبفة هذا البيت فقال: وهذا من التقارب حتى ينال بعضه بعضاً، وذلك يقال له الحَصَر، وهو التضايق. وقال لبيد في نعت نخل بخلاف وصف المرّار:
بين الصفا وخليج العين ساكنةٌ ... غُلبٌ سواجدُ لم يدخل بها الحَصَر
ثم فسرهذا البيت.
وقد غلط في تصويبه الأصمعي، والاستشهاد له لأن الأصمعي غلط في بعض ما حكاه أيضاً، وأصاب في بعض، وسيأتي التنبيه على ذلك.
وقد أنبأتك فيما تقدم من كتابنا بعيب أبي عمرو لهذا البيت وضمنت لك إيضاح معنى شاعره، وفساد قول عائبه، وهذا موضع الوفاء بضماني، وستراه فتعلم أني وفيتُ إن شاء الله.
والغلط من غير الأصمعي في أمر النخل قبيح، وهو منه أقبح لأنه بصري، ومُتّبع الغالط غالط، والمستشهد بالغلط أقل عذراً من المرسل.
أما ما حكاه عن أهل الحجاز فصحيح، وأما الذي، حكاه العرب وتكلمها به على ألسن الأشياء، فقد خالفت رواية أبي حاتم عنه الرواية التي ساقها أبو حنيفة لأن أبا حاتم قال في كتاب النخلة، قال الأصمعي في مَثل للفُرس والنَّبَط: تقول النخلة لأختها: " تباعدي عني وأنا أحمل حِملك وحملي ".
وقد روى ابن قتيبة عن الأصمعي مثل رواية أبي حنيفة وعنه أبو حنيفة لا محالة، والقول قول أبي حاتم.
وأما قوله: أخطأ المرّار في قوله: جوار بالذوائب ينتصينا. فالخطأ منه، ولا شيء أحسن من هذا الوصف للنخل، ولا أحد أجهل ممن خطّأ قائله، وأهل البصر بالنخل من أهل الحجاز وأهل البصرة مجمعون على أن النخل سبيله أن يباعد بين غرسه، وأن من جيّد نعته أن يمتدّ جريدُه؛ ويكثر خوصه؛ ويكثف ويتّصل بعضه ببعض، ويُواصيه حتى يمنع الطير من أن تطيرمن تحته وأعلاه، وهذا أشدّ اشتباكاً من المُناصاة لأن المناصاة أن يأخذ الاثنان؛ كل واحد منهما بناصية صاحبه، ومن وصفهم لنخلهم أن يقولوا: " لا تقدر الطيرعلى أن تَشُقَّهُ، ولا ترى منه الشمس " وسيأتيك هذا منظوماً لفصحاء العرب.
وقول أبي حنيفة: ان النخل إنما يتناصى من الحصَر غلط وإنما الحصر: تقارب ما بين الأصول، والاختيار تباعدها، حدثني أبو روق الهزاني، قال: حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، قال حدثنا الأصمعي قال: قال ابن بكرة: من أراد النخل والشجر والأرض فليغرس على عشرين ذراعاً، ومن أراد النخل والشجر ولم يرد الأرض فعلى خمس عشرة ذراعاً، ومن غرس على أقل من ذلك، فليس يريد نخلاً، ولا أرضاً، ولا شجراً.
فهذا حد تباعد ما بين الاصول، واذا ذهب من اثنتي عشرة ذراعاً بدن النخلة ثم انقسم الباقي بين جريدها وجريد التي تليها فالذي لكل جريدة خمسة أذرع وشعير، ولا خير في الجريدة إذا لم تزد على هذا الذَّرع، فكيف إن نقصت منه.