للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

كان "ابن المعتز" يعتز بالشعب ... وإن رفرفت عليه البنود

ومضى واسمه يردده التاريخ ... لحنًا يزينه الترديد

وحياة الهنا أجل وأبقى ... يا أمير العلا رعتك السعود

فالسنوسي هنا لا يمدح سمو الأمير الشاعر بصفات المدح التقليدية المشهورة عند الشعراء القدامى، ولكنه يمدح عبقريته الشعرية، وإلهامه الأدبي في القصيد، فالشعر الجميل لا يبيد؛ لأن عميد الشعر صاغه للقلوب من وحي عبقريته التي امتزجت بالطبيعة والحياة، فهي خير وسيلة للوحي والإلهام؛ لأننا لا ندري لغة التغريد عند الطيور، ولا ما وراء السنا، ولا في حنايا الظلام والظل، والشذى والأزاهير، والزلال النمير والنور والنوار، والنبع الصافي، والندى والنسيم، والأفق الطليق، والفضاء الواسع، والماء والآفاق، والأمس المشرق، والنهار الصافي ... لا ندري ما وراء ذلك، لكن "وحي الحرمان" صور كل ذلك من فيض الشاعر السمح، وأنغامه في بيان رشيق، لا غموض فيه ولا تعقيد، فأصبح في ثغور الفاتنات أغاني وأناشيد، وعلى نحورهنَّ عقود ولآليء، وفي الحياة كان ماء عذبًا سلسبيلًا، ونورًا مشرقًا مصقولًا؛ لأنه لحن الخلود الذي يبقى يردده التاريخ، كما رددته من قبل ألحان الخليفة الشاعر "ابن المعتز" يرن صداه خالدًا في جنبات الخلود.

وأظنك أنت معي الآن فيما اتجهت إليه، وهو أن هذا المدح جديد في أسلوبه ومنهجه، حيث تقمص مظاهر الطبيعة، لتعبر بوحيها كما يهدف الشاعر، ولها من الإيحاء والألغاز والأسرار ما يبهر العقل، ويستبد بالقلب، ومن وحي الطبيعة وأسرارها كان ديوان الشاعر "وحي الحرمان"، وليس فيه نبرة من مقومات المدح القديم، اللهم إلا أن الشاعر شبَّه الملوك بالملوك، شبَّه الأمير عبد الله الفيصل بالأمير العباسي عبد الله بن المعتز، إن كلًّا منهما ملك شاعر سطر التاريخ لهما الخلود بشعرهما وإبداعهما الفني.

ومن شعر المدح للسنوسي في هذا الاتجاه قصيدة "من شعاع القناديل" التي أهداها الشاعر إلى أخيه الشاعر الكبير أحمد قنديل يقول١:

حلوة هذه القناديل حلوه ... فترنم بها سرورًا ونشوه

مرح آسر ولفظ ضحوك ... لطفه يجذب الكسائي نحوه

كلما تموج بالهزل والجد ... وفي هزلها وفي الجد صحوه

تنطوي في دعابها حكم العقل ... رقاقًا بلا جفاء ونبوه

صاغها شاعر يرفرف كالطير ... على نبعه ويختار صفوه

شعره مثل روحه رفة الزهر ... رواء ورنة العود غنوه


١ أزاهير: ٢٤/ ٢٥.

<<  <   >  >>