للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على (حقوق الإنسان) ، ولو كان هذا الإنسان أخاه، وهذا الأمر كان وما زال يقع، إلى أن يعص الناس الشيطان ويطيعوا الرحمن فيما أحق لهم لخيرهم وأمنهم، {قال لأقتلنك} وتأكيد الفعل هنا عزم على إتيانه بلا تردد ولا رجوع، وليجعل بداية ما تستقبل الأرض هو الدم الأحمر القاني يختلط بثراها، يتفجر من جسم المظلوم هابيل، بيد قابيل ابن أمه وأبيه، من هنا كان الشر في هذه الدنيا هو السائد، واعتداء الإنسان على الحقوق هو القائد، واستحق أن يكون ظلوما جهولا، لما لم يكن مع عهد الله من الأوفياء، ولا على أمانته من الأمناء، لكن الطرف الثاني الممثل للخير وهو هابيل، كان عند شموخ الخير وثبوته، فلم يستثره شر أخيه إلى هجر الخير ليخط إلى شر مثله، فذكره بشيء فتح به الباب إلى الله عسى أن يكون الأخ الأواب، فقال له ردا على عزمه القتل {إنما يتقبل الله من المتقين} ، أي تلك قاعدة القبول فلما اتقيته تقبل مني، فارجع إليه بالتقوى يرجع إليك بالقبول، ولكن أنى له ذلك وهو كما قلت أول مجند لطاعة إبليس، فقال له هابيل {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} ، وبذلك استمر هابيل في تمسكه بحبل الخير من جهة، ومن جهة أخرى بالقول الطيب ليرد أخاه عن غيه، فالأخ القتيل ذكر أخاه بربه وخوفه منه، لما ذكر له أولا أنه لن يرد سيّء العمل بمثله {ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} السبب، {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، أي أنا خفته مع أني أقوى منك - كما ذكر المفسرون - فعليك أن تخاف مثلي منه، وألا تفعل ما يغضبه، لكن ذلك لم يحرك في قابيل نحو أخيه شعرة من حنان أو ترفق، ولم يؤثر شيئا في نفسه التي توحشت، ومع هذا لم يقطع هابيل الأمل في ردع أخيه عما ينتويه، واستمر يخوفه قائلا: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين} تتحمل إثمي عندما تقتلني، وإثمك لما عصيت الله بعدم رضاك عن قسمته وحكمته، إذاً فالتلوي في النار جزاؤك، لما ظلمت وقتلت بغير حق، وذلك أبدا الجزاء الذي لا بد أن يحيق بكل ظالم غشوم.

بعد ذلك كله لم يفعل إلا التقدم نحو ضحيته البريئة. عابدا لشيطانه بأسرع ما تكون العبادة. ولنفسه بأخسّ ما تطاع النفس، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} ، وقتل من؟ تقول الآية في عجب {قَتْلَ أَخِيهِ} وبهذا قضي عليه بالخسران الذي لا ينتهي بأوان {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، بها أول الخاسرين بعد شيطانه اللعين.

بدأ عذابه بحمل جثة أخيه على ظهره، متنقلا بها هنا وهناك لا يدري ما يفعل بها، ورائحتها التي تعفنت لازمته ليستنشقها في ليله ونهاره، وظل هكذا زمنا طويلا أوصله بعض المفسرين إلى سنة، وهو يحمل وزره على ظهره حزينا وحسيرا، ولما أخذ من هذا العذاب المؤقت إلى أن يبلغ العذاب المؤبد، أراد الله أن تصان كرامة الميت وأن تحفظ حرمته، خاصة الصالحين من أمثال هابيل، فعلم طريقة مواراة الأموات وإلى يوم القيامة، وذلك بواسطة غراب قتل زميله تم نبش بمنقاره ورجليه قبرا له ودفنه فيه، واختيار الغراب لهذا الأمر لعله - والله أعلم- لسببين: أولهما أن الغراب من أكثر الطيور غدرا وقتلا خاصة للطيور الأضعف منه، ولهذا كان من الخمس الفواسق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم

<<  <  ج: ص:  >  >>