وأمر بقتلها في حديث صحيح، وثاني السببين أن الغراب حيوان وليس في عقل الإنسان، ولكنه عرف كيف يخفي جريمته على الفور، والإنسان فُضح بجريمته أولا ثم تعلم بعد ذلك من الغراب، {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين} ، من النادمين على قتل أخيه من غير ذنب ارتكبه، ومن النادمين على عدم دفنها كما فعل الغراب عقب القتل، حيث شقي بحملها ورائحتها طويلا، وفوق أن الندم نفعه منعدم، فهو يقطع الأوصال ويطحن عزائم الرجال، ويصبحهم ويمسيهم في هموم تطاردهم العمر كله، ولعذاب الآخرة أخزى بعدئذ.
وكان أن ترتب على هذه الحادثة البشعة، أن يجعل الله من أحق حقوق الإنسان أن تصان نفسه من طيش اللئام ونزق الإجرام، فلم يكتف سبحانه بأن تراق دماء القاتل مقابل ما أراق من دماء، وإنما اعتبره من حيث قدر الجرم كأنه قتل عباده أجمعين {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ليضخم هذا الأمر ويجعله من الهوى ما يرعب به الكواسر القتلة من بني الإنسان.
ولكن الإنسان لما هانت عليه الحقوق التي فرضها الله لصونه وأمنه، راح يلتمس حقوقا كانت في تضييعها أهون عليه، فما توقف القتل والاعتداء والسطو على الحقوق في البلاد والعباد، والقرصنة وقطع الطرق، وفي سبيل ذلك تزهق أرواح وتمزق أشلاء، كل هذا يحدث على مستوى الأفراد والجماعات والحكومات..
فأيهما أنفع للإنسان لو انتفع به، حقوقه التي وضعها الله له، أم التي وضعها لنفسه، ثم لم يُبق هذه ولا تلك فقط لأنه إنسان، وأشقى نوعه ما قال عنه خالقه {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
ولزيادة الإفادة لدى القارئ نقدم مجموعة من الأدلة والشواهد من غير تعليق ليعيها ويقتنيها، نقدمها بلفظها من غير تعليق:
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الآيتان ٨ و٩ من سورة الممتحنة.
"من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة" رواه البخاري.
"من قتل قتيلا من أهل الذمة، حرم الله عليه الجنة " رواه النسائي.
روى هشام بن حكيم أنه مرّ بالشام على أناس من الأنباط وقد أقيموا في الشمس وصب على رؤوسهم الزيت. فقال: ما هذا؟
قيل: يعذبون في الخراج، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" رواه مسلم.
حدث زيد بن سعنه - وهو حبر يهودي - أنه أقرض النبي صلى الله عليه وسلم قرضا كان قد احتاج إليه ليسد به خللا في شؤون نفر من المؤلفة قلوبهم، ثم رأى أن يذهب قبل ميعاد الوفاء المحدد ليطالب بقرضه، قال ابن سعنه: أتيته - يعني النبي صلوات الله عليه- فأخذت بمجامع قميصه وردائه