جحش الذي صبأ عن الإسلام، واعتنق دين الأحباش (النصرانية) وتركها وابنتها منه (حبيبة) في ديار الغربة محزونة مهمومة، تعاني الأمرين من الغربة والبين عن الأهل والزوج والوطن ... فقد فرّق الإسلام بينها وبين أهلها، حتى إن الزوج المسلم الذي كان كنفا وملاذا صار غريبا عنها فحرمت من كل عطف وشفقة وتحنن، ولولا أن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوكالة لما رتق هذا الفتق، ولا جبر هذا الكسر شيء في الدنيا جميعا، فإن جرحها كان غائرا، لأشجان الاغتراب ومرارة التنكر للاباء والأجداد، وقد صارت ديار بني جحش يبابا خرابا تنعق عليها البوم، وتنعب على أطلالها الدوارس الغربان.
لقد صارت رملة (أم حبيبة) أما للمؤمنين، وكان أبوها لا يزال مقيما على الكفر والشرك، وكان دخول أم حبيبة بيت النبوة تحولا خطيرا غير مسبوق.
وكانت فرحة ذي النورين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- لا توصف ولا تحد، وهو خالها المحب العطوف الذي كان أول من بارك تزويج ابنة أخته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجلى هذا السرور في إقامة عثمان وليمة حافلة نحرت فيها الذبائح، وطعم الناس فيها اللحم، وعلى عزف الطبول وأغنيات الجواري والفتيات سهرت المدينة وسهر أهلها يتغنون بقول أبي سفيان عند ما علم بزواج ابنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هذا الفحل لا يجدع أنفه» .
ولم يكن هناك داع بادي الرأي ولا مبرر لغيرة عائشة من رملة حيث إنها سيدة قد نيفت على الأربعين أو تكاد ... ولكن هي الآخرى أم حبيبة رأت أن تربأ بنفسها عن أن تكون مقودة بابنة أبي بكر رضي الله عنهما، وأن تكون- وهي من هي ابنة أبي سفيان زعيم قريش- تبعا لعائشة التي تتزعم ثورة الضرائر في بيت النبوة للاستئثار بأكبر نصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ...