بيد أن عام الحزن الذي فقد فيه الحبيبة وعمه أبا طالب كان قد كبده أثقالا فادحة غير محتملة، لا يقدر عليها بشر غيره، فكان في عائشة السلوى والتسرية وفي كنفها منادح ومسارح لنفسه المكدودة المنهوكة من تباريح الشوق ومواجيد الفراق.
ونعى الناعون، وأسرف الغالون، وأغرق الجاهلون في التثريب واللوم والإنحاء على رسول الله صلى الله عليه أن يتزوج من عائشة رضي الله عنها وهي في التاسعة من عمرها وهي في الصبا الباكر، في عمر الزهور وفي مقام بنت من بناته صلى الله عليه وسلم.
ثم إنها في هذه السن الصغيرة لم تكن على دربة أو ممارسة أو بصيرة أو استئناس بمقتضيات الزواج، وما يتطلبه من أمور اجتماعية وشخصية ونفسية، فأنّى لصبية صغيرة أن تعرف أو تدرك شيئا من هذا؟!!
لكن هؤلاء نسوا أو جهلوا أن البيئة والجزيرة العربية لم تنكر هذا أبدا بحال، ففيها أمثلة كثيرة مضروبة على هذا، الأمر الذي يدل على سبيل القطع بأن هذا التزويج كان مقبولا وسائغا، ولم يكن مستهجنا ولا مستغربا أن يقع.
والدليل على ذلك ان سيدنا عمر بن الخطاب «١» رضي الله عنه كان تزوج من بنت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو في عمر أبيها ولم ينكر أحد عليه ذلك.
ثم إن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تزوج من هالة ابنة عم آمنة بنت وهب وهو شيخ كبير طاعن في السن كان ناهز العمرين، وقد
(١) راجع ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تاريخ الطبري (١/ ١٨٧- ٢١٧) ثم في (٢/ ٢- ٨٢) واليعقوبي (٢/ ١١٧) وابن الأثير (٣/ ١٩) والإصابة (ت ٧٥٣٨) وصفة الصفوة (١/ ١٠١) وحلية الأولياء لأبي نعيم (١/ ٣٨) .