للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكان القادر من خيار الخلفاء، حيث أظهر الإسلام والسنة - كما سيأتي مفصلاً في موضعه- وأقام العدل، وفي هذا المقام يقول ابن الأثير: "وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جدّتها، وجدّد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق، فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها (١)."

وساق الصفدي حكاية طريفة تجلي حسن سياسة القادر ورفقه بالرعية، حيث قال الصفدي:-

"بينما القادر ذات ليلة يمشي في أسواق بغداد، إذا سمع شخصاً يقول لآخر: قد طالت علينا دولة هذا الشؤم، وليس لأحد عنده نصيب، فأمر خادمًا كان معه أن يتوكل به، ويُحضره بين يديه فما شك أن يبطش، فسأله عن صنعته، فقال: إني كنت من السُعاة الذين يستعين بهم أرباب هذا الأمر على معرفة أحوال الناس - يريد أصحاب المطالعات- فمنذ ولي أمير المؤمنين أقصانا، وأظهر الاستغناء عنّا، فتعاطلت معيشتنا، وانكسر جاهنا عند الناس، فقال له: أتعرف من في بغداد من السعاة؟ قال: نعم، فأحضر كاتباً فكتب أسماءهم، وأمر بإحضارهم، ثم إنه أجرى لكل واحد منهم معلوماً، ونفاهم إلى الثغور القاصية ورتّبهم هناك عيوناً على أعداء الدين، ثم التفت إلى من حوله وقال: اعلموا أن أولئك ركّب الله فيهم شراً، وملأ صدورهم حقداً على العالم، ولا بدّ لهم من إفراغ ذلك الشر، فالأولى أن يكون ذلك في أعداء الدين، ولا ننغِّص بهم على المسلمين (٢)."

فيلحظ الناظر إلى هذه الحكاية ما عليه القادر بالله من تفقد أحوال الرعية، وتجاوز عثراتهم، والإشفاق عليهم، حيث أجرى لأولئك القوم العطاء، كما يلحظ حسن تدبيره وسياسته إذا صرف هؤلاء القوم - أرباب المطالعات والتجسس - إلى ما هو أنفع فجعلهم عيوناً على أعداء الدين.

ومما يجدر ذكره أن القادر بالله يعدّ من أهل العلم وساداتهم، حتى أن ابن الصلاح عدّه من فقهاء الشافعية، وأنه من خيار خلفاء بني العباس وأحبارهم (٣).


(١). الكامل ٩/ ٤١٥، وانظر: ٩/ ٨١.
(٢). الوافي بالوفيات ٦/ ٢٤١.
(٣). انظر: طبقات الشافعية لابن الصلاح ١/ ٣٢٤، والبداية ١١/ ٣٠٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي صـ ٤٩١.

<<  <   >  >>