للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الآية وأصبحت الأبحاث الدقيقة مجال من لا طاقة لهم بها، وظهرت الفلسفة في ثوب مشوه منقوص؛ وإذا كنا نعيب على هؤلاء الأدعياء جرأتهم فلا يفوتنا أن نأخذ على الفلاسفة المختصين تقصيرهم في التعريف عن أنفسهم وتهاونهم في الدفاع عن فنونهم وعلومهم.

ليست الفلسفة غريبة بالقدر الذي يدعيه المعرضون عنها، ولا خيالية بدرجة تباعد بينها وبين الحياة وشؤونها. فللزارع فلسفته في حقله، وللرجل فلسفته مع زوجه، وللزوجة فلسفتها مع بنيها. لكل من هؤلاء وهؤلاء طريقة خاصة في تفهم الأمور المحيطة به والحكم عليها ووزنها بميزانها الصحيح؛ وتلك ولا شك فلسفة ذات مغزى عظيم. وما اصدق أرسطو إذ يقول: الإنسان حيوان فيلسوف. على أن الفلسفة بمعناها الدقيق لا تخرج عن دائرة الحياة العملية والتجارب اليومية؛ وكل همها أن تشرح هذه التجارب وتفسرها تفسيرا يرتضيه العقل ويطابق الواقع. فظواهر سرورنا، وألمنا، وقواعد سلوكنا، ومعاملتنا وآراؤنا ومعتقداتنا، هي في جملتها موضوع الدراسات الفلسفية، ومن منا يمر عليه يوم - بل ساعة - دون أن يحكم على شئ بأنه خير أو شر، وعلى آخر بأنه صواب أو خطا، وعلى ثالث بأنه جميل أو قبيح؟ وهذه الأحكام الثلاثة هي شغل الفيلسوف الشاغل وعمله الدائم، يعنيه أن يدرس ظواهرها، ويضبط قوانينها، ويبين للناس كيف يكونونها التكوين الصحيح. فالفلسفة إذن من الحياة في صميمها، أو إن شئت هي الحياة كلها؛ وكيف لا وفي دراسة للإنسان في مختلف أحواله الفردية والجمعية، الفكرية والخلقية.

وإذا كانت هذه منزلة الفلسفة فمن العبث أن نهملها؛ أو أن نضعها في الصف الأخير من أبحاثنا، وهل حاجتنا إلى تعرف المادة في تمددها وانكماشها، والجسام في مغناطيسيتها وجذبها، أمس من حاجتنا إلى تعرف أنفسنا في ميولهما ومشاعرها، وتنافرها وتآلفها؟ نعم أن دراسة الإنسان عسيرة ودقيقة، غير أنها لهذا السبب نفسه ضرورية ولازمة؛ ولا أظنها اقل تشويقا من أية دراسة أخرى. فعناصر الثقافة العامة التي تشغل الأذهان الآن لا يصح أن تقصر على الجغرافيا الإقليمية، والاقتصادية، والهندسة النظرية والفراغية، والكيمياء، والطبيعة وما إليها دون أن يكون للفلسفة فيها نصيب كبير. على أن هذه العلوم نفسها نشأت في حجر الفلسفة وتربي في كنفها؛ فقد كان الإغريق الأول يطلقون كلمة فلسفة على أية معرفة كيفما كان نوعها، وكان العلم والفلسفة متآخيين ومتآزرين، وكثيرا ما كان الفيلسوف

<<  <  ج:
ص:  >  >>