ألف وعد بالوفاء المستحيل؟ بل أي محب لم ينس طربوشه مرة، أو لم يلبس طربوشين واحداً فوق الآخر (ومع ذلك تراه لذهوله يدور باحثا عن طربوشه لظنه أن رأسه عار!) أو لم يبد للناس في الطريق أو الترام ملتاث العقل مخبولاً، يضحك ويقطب بلا سبب ظاهر، ويشير بأصابعه أو يلوح بيده، أو يكلم نفسه؟ والأرق؟ لا أدري لماذا لا ينام العشاق ملء جفونهم كما ينام عباد الله الآخرون؟ ولكن الذي أدريه أن النوم المريح قلما يؤاتيهم أو يسعفهم بسكينته، وتالله إن العاشق لمسكين! لا نوم الليلة يا صاحبي لأنك حين ذهبت إلى بيت حبيبتك رأيتها مطلة من النافذة وناظرة إلى جهة غير التي تعرف أنك آت منها! فهل كانت يا ترى تنتظر سواك؟ وعليك أن تذرع أرض الغرفة مائة ألف مرة هذه الليلة وتقطع خمسمائة فرسخ - جيئة وذهوبا - لأنك وأنت معها جعلت ذراعك حولها وهممت بضمها وتقبيلها فجنحت إلى الدلال ونفرت من العناق، وكانت تبتسم، ولكنها قالت (من فضلك!) من فضلك؟، وهل بيننا (من فضلك!). هذا كلام يقال للأغراب، وتكلف في التعبير لا يكون بين المحبين! ويظل طول الليل يدب على رؤوس النيام تحته. وفي ليلة يسير على وجهه في الشوارع كالمتشردين، ويحدث نفسه بالانتحار، ويجتاز جسر إسماعيل، وعينه إلى الماء الذي يتدافع بين قواعده، وقد يسأم التدخين فيلقي بعلبة السجاير في الماء ويغرقها فيه بدلا منه وفداء له، وبعد خمس دقائق يشتري غيرها. ولا يزال يتمشى حتى يرتاب في أمره الشرطة، ويرى منهم ما يرد إليه بعض ما عزت من عقله، فيرجع إلى البيت مضعضعاً مهدوداً. . . إلى آخره، إلى آخره.
ثم إن الحب إذعان، ومن أحب امرأة فقد أسلم أمره - إلى حد ما - لأهواء لا ضابط لها، ولا كابح، ولا تمييز فيها بين الممكن والمتعذر، أو اللائق وغير اللائق؛ وقد يطير الحب عقل الرجل - بل هو يفعل ذلك على التحقيق - ولكنه لا يستطيع أن يغير أسلوب تفكيره ولا أن يجعله كأسلوب المرأة في تفكيرها. وعسير أن يظل الحب قادراً على إخفاء الفوارق بين أسلوبي الرجل والمرأة في التفكير. وهب وقدته تبقى زمناً طويلاً - وهو ما أشك فيه ولا أومن به - فان توالي اصطدام العقليتين خليق أن ينبه إلى هذه الفوارق وأن يزعج الرجل ويحيره، وقد يفضي به إلى السآمة.
والمرأة التي ترى نفسها محبوبة تتوهم أن الرجل أباحها ظهره فهي تركبه وتركضه كيف