- قال: صدقة مني على الأزواج المساكين الذين لا يجدون ما يطلقون. . .
وطال بنا الطريق إلى تبوك، وكاد ينفذ ما كان معنا من ماء، وخشي القوم الموت، فاقبلوا كلهم على صْلبي، يتذمرون من بُعد تبوك وطول الطريق، فتركهم حتى إذا أنفض كلّ جعبته قال لهم ضاحكاً:
- معكم الحق، أنها بعيدة، ولكني اقسم لكم بالله أني لم أضعها هناك. . . وليس لي في بعدها يدان
ولم يكن صْلبي يعرف المدن الكبيرة، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك قرية فيها ستون بيتا. . .) فلما بلغنا - قافلين - مشارف الشام: أغريناه دخول الدينة، وجعلنا نصف له الشام: رياضها وأنهارها، وعظمها وعمرانها، فيأبى؛ وكنت صفيّه من القوم خليله ونجيّه، فجعلت أحاوله وأداوره وبذلت في ذلك الجهد، فلم أصنع معه شيئا، لما استقر في نفسه من كراهية المدن وسوء الظن بأهلها. . . فتركناه مرغمين، وودعناه آسفين!
وعدت إلى دمشق، فانغمست في لجة الحياة، وغصت فيها إلى أذنيّ، ونسيت صْلبي وصحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها؛ ومرت على ذلك شهوراً. . . وكان أمس فلمحت في (باب الجابية) وسط الزَّحم الهائل وجهاً أعرفه، فذهبت أنظر إليه، فإذا هو وجه صْلبي بعينه وأنفه. . . فأقبلت عليه مسروراً:
- صْلبي. . . هذا أنت؟
- قال: لا صْلبي ولا ملبي. . .
- قلت: لم ويحك؟
- قال أنا في طلبك منذ ثلاث، ثم لا تأتي إلي
- فقلت له ضاحكا: وأيّ ثلاث، وأيّ أربع، وأيّ خمس؟ أتحسبها تبوك فيها ثلثمائة إنسان؟ إنها دمشق يا صْلبي فيها ثلثمائة ألف؟. . .