وأخذت بيده فاستخرجته من هذه الزحمة، وملت به إلى ندىّ (مقهى) قريب، فجلسنا فيه ودعوت له بالقهوة العربية والشاهي فسر وانطلق يحدثني، فقال:
لما فارقتكم ورجعت أسير في هذه البادية وحيداً، شعرت بالوحشة وحننت إلى هذه الأيام التي قضيتها معكم، فاستعبرت وجعلت ألوم نفسي وأقول: يا نفس ما كان ضرك لو أجبت القوم ورددت الشام فرأيت ما لم تري؟ وانصرفت إلى أهلي فلبثت فيهم شهراً، ثم دعاني الأمير فارتحلت إليه، فإذا عنده رهط من أهل الحضر يريدون دليلاً، فسرت معهم أدلهم حتى بلغت بهم مشارف الشام، فدعوني وألحوا عليّ فاستجبت لهم فدخلوا بي دمشق. . .
فلما بلغنا (الميدان) وصرنا بين البيوت، رأيت سيارة كسياراتكم تلك، ولكنها أكبر وأضخم، ولها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فقال صاحبي: هذا هو الترام، فتعال نركب فيه
قلت: لا والله ما أحب أن أركبه
فزينوه لي وحببوه إليّ، حتى استحييت منهم لطول ما يسألونني وآبى، فدخلت ويدي على خنجري أن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني إلى النافذة أن رابني أمر قفزت إلى الطريق، وجلست حذراً، فما راعني إلا رجل بثياب عجيبة، قد شق إزاره شقاً منكراً، ثم خاطه حول فخذيه، وارتدى برداء ضيق، قد عمد إليه فصفف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فبدا كأنه قرد. . . ولم أدر ما هو، ثم رجع إليّ ما غرب من عقلي، فقلت رومي مجنون من هؤلاء الروم الذين يحكمون الشام، وخف إن أنا لنت له أن يسطو عليّ، فسللت خنجري لأغمده في صدره إذا هو انتهى إليّ، فقام إليّ صاحبي يقول:
- مالك يا صْلبي، ماذا عراك؟
- قلت: ألا ترى الرومي المجنون؟
- قال: أي رومي يا صْلبي؟ وأي مجنون؟
- قلت: هذا؟ آما تراه؟
- قال: هذا جابي الترام
- قلت: جبّك الله!!
وسكت فقد أقبل هذا القرد على صاحبي، فمد إليه يداً كأنها حجر الرحى، فوضع فيها جُبنة